تفسير القرآن
النمل / من الآية 7 إلى الآية 14

 من الآية 7 الى الآية 14
 

الآيــات

{إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سآتيكم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُون* فَلَمَّا جاءها نودي أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* يا موسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ* إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بيضاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ* فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آياتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ* وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (7ـ14).

* * *

معاني المفردات

{آنَسْتُ}: أبصرت.

{بِشِهَابٍ}: شعلة.

{قَبَسٍ}: قطعة من نار.

{تَصْطَلُونَ}: تستدفئون.

{وَلَمْ يُعَقِّبْ}: لم يرجع.

{مُبْصِرَةً}: واضحة.

* * *

خطوة النبي موسى(ع) الأولى مع الرسالة

وتظل قصة موسى، ذات الأبعاد المتعددة التي تتحرك في أكثر من موقعٍ للعقيدة وللحركة والحياة، في ما يتمثل فيها من موقعه وموقفه وتجربته في خط المواجهة لفرعون وقومه كنموذج متحرك لكل المواقع المماثلة التي توحي بها القصة للمستقبل على صعيد الأشخاص والأمكنة والأوضاع.

وقد اختصرت السورة القصة بين البداية في انفتاح موسى على الله من خلال الرسالة في موقع المعجزة، وبين النهاية في مواجهته للآخرين الذين جحدوا رسالته من موقع التمرد فكانت نهايتهم في أجواء الهلاك.

* * *

موسى يأنس نارا

{إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ} وكان يبحث عن نار للدفء في أجواء البرد القارس، وقد لا يكون أهله متعددين، فقد قيل إن امرأته وحدها هي التي كانت معه، وربما كان معه غيرها، {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعيد {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيمن يجتمع لدى النار من الناس، فقد يخبرنا عن الطريق الذي نريد أن نسير فيه، أو يعرّفنا ما نصنعه في هذه المرحلة من السفر {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب هو الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجوّ، والقبس المتناول من الشعلة، {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تحصلون على الدفء من خلاله في هذا المكان البارد.

* * *

موسى أمام المفاجأة الإلهية

وهنا كانت المفاجأة التي لم يحسب لها حساباً، فقد كان يفكر أنه سيجد ناراً عادية كبقية أنواع النار المعروفة، ولكنه وجد ناراً مقدّسة تختلف عما رآه، فليس هناك إنسان إلى جانب النار يلقي فيها الحطب، ليستمر اشتعالها بشكل عاديٍّ، ولكنها تشتعل وتشتعل {فَلَمَّا جَآءهَا نُوديَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وها هو يسمع كلاماً ولا يرى شخصاً، ويستمع بذهول واستغراب، إعلاناً بالبركة التي تمثل امتداد الخير في الحياة، ولكن من هو المبارك الذي ينفع الناس بمواقع الخير لديه، {بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} فهل هو الله باعتبار قدرته التي أوقدتها على أساس أن صاحب القدرة موجود من ناحية معنويةٍ، في مظاهر قدرته، كما هو السلطان متمثل في مواقع سلطته؟

وهناك وجوهٌ أخرى تقول: إنهم الملائكة الحاضرون فيها، ومن حولها أي موسى، أو أنه موسى وبمن حولها أي الملائكة، أو نور الله وبمن حولها موسى، وغير ذلك مما لا دليل عليه. ويمكن أن تكون الكلمتان تعبيراً عن الله، باعتبار أنه محيطٌ بالأشياء ومهيمنٌ عليها في عمقها وسعتها، فهو في الداخل في عمق القدرة، وحولها في امتدادها في حدود الأشياء، لأن السياق يوحي بأن المراد توجيه موسى إلى الله في مظهر قدرته بشكلٍ غامضٍ يوحي به ولا يُعلن عنه، ليكون ذلك مقدمةً للإعلان عنه بطريقة واضحةٍ.

{يا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتعال إليّ، واقبل عليّ، واستمع إلى ما أقوله لك. واعتمد على قوتي أمام كل القوى، واتّبع هداي إذا سلك الناس طرق الضلال، فأنا العزيز الذي يهيمن على كل شيء، ويكفي من كل شيء، ولا يكفي منه شيء، وأنا الحكيم الذي أعطيت كل شيء هداه في ما يصلح أمره، ويبتعد به عن مواقع الاهتزاز والفساد والسقوط، وجعلت لكل شيء قدراً.

وانتبه موسى إلى الصوت الإلهيّ بكل وعيه وشعوره، وعاش معه في ذهولٍ وخشوع، ووقف ينتظر المزيد. ماذا بعد ذلك؟ وما هي المهمّة الإلهية الموكولة إليه؟ وجاءت المفاجأة الثانية.

* * *

موسى أمام المفاجأة الإعجازية

{وَأَلْقِ عَصَاكَ} وألقاها من دون أن يعرف كيف ولماذا هذا الأمر الغريب، {فَلَمَّا رآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} مما كان يتخيله من صورة الجان الذي يتحرك ويتلوى ويرتفع ويهبط {وَلَّى مُدْبِراً} واستمر في هروبه من هذه الحية الصغيرة السريعة الحركة، التي فسّر بها بعضٌ كلمة الجان، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يعد إلى مكانه بما يتمثل بالخوف الغريزيّ الذي يستسلم إليه الإنسان عند وجود ما يثيره، بشكلٍ عفويٍّ، وبالحيرة القلقة أمام هذا الحدث المفاجىء المرعب، {يا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} فأنت هنا أمام الله ولم يحدث ما حدث لك إلا بأمره، فكيف تخاف وأنت في أمنه وقد أعطاك الدور الكبير في حياتك وحياة الناس، وهو الرسالة الإِلهية التي أرادك أن تبلغها للناس؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يخاف لديه المرسلون، وهو الذي تكفل لهم بالأمن والنصرة والتأييد؟ وكان هذا أوّل إعلانٍ للرسالة بشكلٍ عفويٍّ غير مباشر.

وهكذا يؤكد لنا القرآن نقاط الضعف البشري لدى الأنبياء بشكل طبيعيّ غريزي، ثم يتدخل الوحي ليثبِّت النبيّ في وعيه لعناصر القوّة في ذاته، بما يحشده الله من تعاليمه، وما يفيض عليه من ألطافه، وما يثيره النبي في تجربته من إرادته.

وقد أوحى الله إلى موسى من خلال هذه الآية كيف يمكن له أن يحصل على الطمأنينة الداخلية في نفسه من كل عوامل الخوف التي تتحرك في شخصيته في الداخل، أمام مظاهر التخويف من الخارج، ليعرف أن الله قد تكفّل له بالرعاية والأمن، فلا مجال لأيِّ شيء من بشر أو غير بشر أن يضغط على نفسه بالتخويف والترهيب، لأنه لن يترك أيّ تأثير ضدّه أمام رعاية الله له {إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الظاهر ـ والله العالم ـ أن الاستثناء منقطع مما يمكن أن يستفاد من الآية السابقة من الإيحاء بأن غير المرسلين من هؤلاء الذين يظلمون أنفسهم بالابتعاد عن مواقع غفران الله لا أمن لهم عنده، فهم غير آمنين من عقابه ولا قريبين من رحمته، فجاءت هذه الآية لتكون استثناء من ذلك، لتبين بأن هؤلاء الظالمين لأنفسهم بما أساؤوا في العقيدة، أو في العمل ثم أحسنوا بالإيمان والطاعة، فبدّلوا مواقفهم على أساس الإِنابة إلى الله، سوف يغفر الله لهم ويرحمهم، لأنه يقبل التوبة عن عباده وهو الغفور الرحيم. وبذلك تتضمن كلمة {إَلاَّ } معنى كلمة «لكن» المفيدة للاستدراك، كما هو مفاد الاستثناء المنقطع، كما قيل.

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير برص، لأن البياض غير الطبيعي لليد يلازم البرص عادةً، {فِي تِسْعِ آياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} مما تقدم ذكره في سورة الإسراء في تفسير الآية 101 منها، وذلك للتأكيد لهم على موقع موسى من ربّه وصدقه في دعواه الرسالة لتقوم الحجة عليهم، فتضغط على عنادهم ومكابرتهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} فقد ارتفعوا بكبريائهم وغطرستهم عن مستوى طاعة الله وتقواه، وانحرفوا عن الخط المستقيم، فكان لا بد لهم من صدمةٍ قويةٍ تصدم مقاومتهم وتضعف قوَّتهم بتلك الآيات البينات التي يتمثل فيها التدبير الإِلهيّ، ليعودوا إلى أنفسهم من جديد.

{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آياتُنَا مُبْصِرَةً} بما تفتحه من حقائق وما تثيره من أفكار وتلتقي به من موقع النور في حقائق الحياة في علاقة الله بكل ما فيها من قوى ومظاهر وأوضاع، {قَالُواْ هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} لأن هذه الكلمة هي التي يمكن أن تبرر الموقف المعلن لهم في رفض رسالة موسى ونبوّته أمام الجمهور الذي قد يطالبهم بالإيمان من خلال قوّة الحجة التي تقدمها لهم الآيات، وقد كان السحر شائعاً في حياة الناس الذين يرتبطون بالسطح في دراسة الأمور ولا ينفذون إلى العمق ليكتشفوا الفرق بين المعجزة والسحر.

{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} فلم يكن جحودهم الذي بدر منها منطلقاً من حالةٍ فكرية تبرّر لهم ذلك مما يمكن أن يكونوا قد اكتشفوه في هذه الآيات من نقاط ضعف، وما عرضه موسى في رسالته من مواقع رفض، بل كان منطلقاً من مشاعر الظلم العدواني الذي يرفض أن يقف فيه الإنسان عند حدّه وحجمه الطبيعيّ، ومن طبيعة الاستعلاء الذاتي أن يمنع الإنسان من القبول بالحقيقة التي يتحدث بها الناس الذين هم أقلّ منه قدراً وطبقةً في ما هي الموازين المألوفة لدى المجتمع في تقدير الأفراد تبعاً لقوّة المال والجاه والنسب. وهذا هو الذي يفسر جحود الكثيرين من الناس لحقائق الحياة والإيمان، في طبيعة الموقف، في الوقت الذي نلمح فيه الحقيقة في مواقع اليقين المشرق بالعمق الإيماني المتفجر بينابيع النور.

وماذا كانت النتيجة؟ هل استطاعوا أن يطمئنوا إلى كفرهم وجحودهم وكبريائهم في مواقع السلطة؟ لم يبق لهم شيءٌ من ذلك، فأغرقهم الله وأسقط كل دورهم الكافر والظالم، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} الذين أفسدوا حياة الناس بالكفر، وأوضاعهم بالظلم والعدوان. واعتبر بذلك لتصل إلى الفكرة القائلة بأن الفساد قد يتحرك ليثبت أقدامه في الواقع، ولكنه لن يصل إلى الثبات في مواقعه وحركته مهما طال الزمن.