من الآية 20 الى الآية 28
الآيــات
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين* لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ ليأتيني بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين* اذْهَب بكتابي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} (20ـ28).
* * *
معاني المفردات
{وَتَفَقَّدَ}: جاء في مفردات الراغب: التفقّد التعّهد لكن حقيقة التفقّد تعرُّفُ فقدان الشيء والتعهد تعرُّفُ العهد المتقدّم[1].
{سَبَأ}: اسم رجل تنسب إليه قبائل باليمن.
{بِنَبأ}: النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن.
{الْخَبْءَ}: والخبء، على ما جاء في مجمع البيان: المخبوء، وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه، وهو مصدر وصف به، يقال: خبأته أخبئه خبأ، وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة[2]. وبذلك يكون التعبير وارداً على سبيل الاستعارة بلحاظ اختباء الأشياء كلها ـ قبل أن توجد ـ في قلب العدم الذي لا يحيط به أحد إلا الله.
{تَوَلَّ}: تنحَّ.
{مَاذَا يَرْجِعُونَ}: ماذا يدور بينهم.
* * *
سليمان يسأل عن الهدهد ثم يحاوره
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} كما يتفقد القائد جنوده ليتعرف الغائب منهم والحاضر، ولفت انتباهه غياب الهدهد عن نظره فلم يره، {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} هل حجبه شيء عن عيني {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ} من دون إذن مني. فهو يجب عليه التقيد بنظام الحضور الدائم أمامي ما لم آذن له، لما قد تفرضه الحاجة من وجوده، أو لما يقتضيه نظام الطاعة.
{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} إذا كانت جريمته تستوجب العذاب، {أَوْ لأذْبَحَنَّهُ} إذا كانت تستوجب الإعدام {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجةٍ قويةٍ تبرر غيابه، حيث يجب عليه تقديم الحجة الواضحة للدفاع عن نفسه.
{فَمَكَثَ} الهدهد {غَيْرَ بَعِيدٍ } من الزمان، فلم يمض وقت طويل على غيابه {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} من معلومات عن بعض مواقع السلطة التي قد تحتاج إلى اتخاذ موقفٍ حازمٍ منها من حيث الدعوة إلى الإيمان بالله، والسيطرة عليها، في ما تمثله من مركز قوّةٍ ضد سلطة الحق {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأ بِنَبَأ يَقِينٍ} فقد ذهبت إلى اليمن ودخلت إلى عاصمتها سبأ واطلعت على طبيعة الناس فيها ونوعية الحكم المسيطر عليها، وجئتك بالخبر المفصل الواضح الذي يرتكز على اليقين.
{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} من لوازم السلطة التي تركز موقع القوّة الكبير لها في حياة الناس بحيث تستطيع أن تفرض إرادتها عليهم بجميع الوسائل الضاغطة في أكثر من صعيد، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} في ما تمثله الكلمة من معنى السيطرة والعلوِّ في القوة والدرجة بحيث تطلّ على الساحة من أعلى مواقعها.
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ } فهم من الوثنيين الذين يعبدون الشمس ولا يعبدون الله {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} فقد استغرقوا في الإحساس بعظمة هذا الكوكب العظيم، بحيث خُيّل إليهم أنه الإِله، وغفلوا عن التفكير العميق بأنه مخلوقٌ لله، وخاضعٌ لإرادته، من خلال ما جعله الله له من نظام دقيق في حركته وخط سيره، وابتعدوا عن الانفتاح على الله، بقدرته المطلقة المتمثلة بجميع خلقه، في ما يدل عليه وجودهم وقدرتهم بأنهم مربوبون لرب عظيم، فهو الغني عنهم بذاته، وهم المحتاجون إليه بطبيعة وجودهم.
وهكذا قادهم الشيطان إلى الشعور بأنهم على حق، وأن أعمالهم ـ كلها ـ صواب، فحجب عنهم الرؤية الواضحة للأشياء {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} المستقيم، لأن السير عليه يفرض الالتفات إليه، والمعرفة لبدايته ونهايته، كما يفرض الرغبة في سلوكه من موقع النتائج الطيبة التي قد يحصل عليها من خلال ذلك {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} بعد أن فقدوا ملامح الصورة للواقع الذي يحيط بهم، أو يطلّ عليهم، فأضاعوا سبيل الهدى، وابتعدوا عن الفطرة الصافية الكامنة في أعماقهم التي تدلهم على مواقع الشروق في حركة الحقيقة في الكون والفكر والإحساس العميق.
{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ} إن الله هو الذي يخرج الأشياء من عمق العدم بقدرته التي لا يحدّها شيء، تماماً كما يخرج الأشياء الكامنة في داخل السماوات والأرض مما لا يملك أحد الوصول إليها، فهو الذي ينبغي أن يسجد الناس له، في ما يمثله السجود من الخضوع للقدرة المطلقة المهيمنة على نظام الكون كله بجميع مظاهره وظواهره في السماء والأرض. وما قيمة عظمة الشمس أمام عظمة الله، الذي خلقها ووضع لها القوانين والشروط التي تحكم حركتها، بل إن عظمة التدبير فيها دليلٌ على عظمة المدبّر لها، وهو الله، فكيف يسجدون لها ويتركون السجود لله الذي يملك الأمر كله، {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } لأنه المحيط بكم من عمق المعنى الخفيّ من وجودكم.. إلى امتداده في المنطقة المعلنة منه.
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فهو وحده الإِله الذي يستحق العبادة، وكل من عداه هو مألوه له ومخلوق بقدرته، وكل عرش في الكون هو دون عرشه، لأن قوّته مستمدة من قوّة الله، في ما أعطاه من مواقع السلطة لعباده، مما يقدرون عليه ويملكونه من أشياء.
وقد يكون هذا من كلام الهدهد الذي يملك وعي ذلك بفطرته الصافية وغريزته العفوية، فيدرك وجه الحق والباطل في شؤون العقيدة بما يأخذه الناس منها، كما يملك معرفة مواقع الحب الذي يلتقطه في الأرض ليميز بين الصالح منه وغير الصالح، بما ألهمه الله من علم ذلك كله.
وقد يكون من كلام الله كما درج عليه الأسلوب القرآني من الامتداد مع الفكرة عند الحديث عن بعض مفرداتها بما تقتضيه طبيعة الأمور في تفاصيلها الواقعية.
{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فقد كان الموقف الذي يقفه الهدهد، هو موقف المحاكمة التي يحتاج المتهم فيها إلى دليلٍ على صدق دفاعه، ولم يقدم الهدهد في كلامه هذا إلا الدعوى من دون بينةٍ.
* * *
سليمان يكلف الهدهد حمل رسالته
{اذْهَب بِّكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} واطرحه بينهم، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي ابتعد عنهم، {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } في ما يخاطب به بعضهم البعض مما يعلّقون به على الكتاب، بعد مناقشته فيما بينهم. وهكذا كان، فقد فعل الهدهد ما أمره به سليمان، وألقى الكتاب إليهم بشكل مفاجىء، ولم يتبينوا له مصدراً. وكانت بلقيس ـ ملكة سبأ ـ هي التي تسلمت الكتاب وقرأته، فجمعت قومها للتحدث معهم في هذا الأمر العجيب.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:397.
(2) مجمع البيان، م:4، ص:284.
تفسير القرآن