تفسير القرآن
النمل / من الآية 45 إلى الآية 53

 من الآية 45 الى الآية 53

الآيــات

{وَلَقَدْ أرسلنا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ* قَالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ* وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ* قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ* وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ في ذلِكَ لآية لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (45ـ53).

* * *

معاني المفردات

{بِالسَّيِّئَةِ}: هنا بمعنى العذاب.

{الْحَسَنَةِ}: هنا بمعنى الرحمة.

{اطَّيَّرْنَا}: تشاءمنا.

{رَهْطٍ}: الرهط: من ثلاثة رجال إلى تسعة.

{خَاوِيَةً}: خالية.

* * *

صالح مع قومه في خط الرسالة

وتتحدث السورة عن قصة صالح مع قومه ثمود في إجمال الموقف الذي يثير المسألة في الذهنية المعقّدة المتشنّجة التي كان فيها الكافرون يتحركون على أساس إهلاك الرسول تنفيساً للعقدة، ورفضاً للفكر والحوار، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله بعذابه، وأنجى الرسول والمؤمنين معه، ولم يحصل الكافرون على أيّة نتيجةٍ من ذلك كله.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} في ما تمثله كلمة العبادة من اختصارٍ للرسالة في كل أفكارها وتطلعاتها، لأنها تعني الإيمان بالله والحركة المتنوعة في هذا الاتجاه، بحيث لا يخضع الإنسان في كل تفاصيل حياته إلا لله، ولا يتجه في فكره وشعوره وحياته إلا إليه.

{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} فهناك فريق الإيمان الذي انفتح عقله على الدعوة، ففكر بها ودخل مع الرسول في حوارٍ إيجابي حولها واقتنع بها على هذا الأساس، وهناك فريق الكفر الذي أغلق عقله وشعوره عنها واستسلم لغرائزه العدوانية، فلم يُقبل على مناقشة الطرح الإيماني ولم يرد أن يحرّك خطواته في هذا الاتجاه، لأن الرفض لم يكن عنده حركة فكر بل حركة عقدةٍ.

وقد نستوحي من بعض الآيات القرآنية السابقة في سورة الأعراف أن المؤمنين هم المستضعفون الذين تتحرك الرسالة من أجل إعادة الاعتبار إلى إنسانيتهم في مجتمع الامتيازات الظالمة الذي يعمل على إلغائها، فيقبلون عليها من مواقع فطرتهم الصافية، أمَّا الكافرون، فهم المستكبرون الذين تنطلق الرسالة من أجل إعادتهم إلى مواقع الصفاء في الشعور الإنساني العميق الذي يعمل على إبعادهم عن الظلم والعدوان والتكبر، وتحويلهم إلى العدل والمحبة والتواضع، وإلغاء الامتيازات الظالمة في تعاملهم مع الناس، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75 ـ 76]. ويظهر من الآية أن المستكبرين قد سيطروا على بعض المستضعفين فأبعدوهم عن الإيمان.

{قَالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} وذلك في ما كانوا يبادرون إليه من سؤال العذاب الذي توعدهم به صالح إذا لم يؤمنوا به، في مواجهة سؤال الرحمة الذي يدعوهم إلى السير معه إذا آمنوا به. فهو يريد لهم أن يفكروا بمسألة الإيمان من خلال المعطيات الفكرية، ومن خلال النتائج الإيجابية والسلبية على مستوى قضية المصير، لا أن يبادروا إلى طلب العذاب بطريقةٍ متشنّجة. {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن الله يرحم المستغفرين المنيبين إليه.

{قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} فقد جئت إلينا وكنا فريقاً واحداً، وكنا بعيدين عن المشاكل المعقدة التي أثرتها في حياتنا من موقع دعوتك، ما جعلنا نتشاءم بك وبهؤلاء الذين آمنوا بك، لأنكم جئتم بالشؤم المتحرك في كل حياتنا العملية، فاذهب عنا لنتخلص من كل مشاكلك ومن كل الشرّ الذي أحاط بنا من كل جانب بسببك.

{قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } فهو الذي أنزل عليكم البلاء في ما اخترتموه لأنفسكم من أسبابه، وذلك هو سرّ ما يصيب الناس من الشرور والمشاكل انطلاقاً مما يقومون به من أعمال شرّيرة تستتبع ذلك. فليست القضية قضية أشخاص يجلبون البلاء إلى المجتمع، كما هو الطير الذي يجلب الشؤم إلى الناس، مما يعتقده البعض من ذلك، بل القضية هي قضية أعمال تؤدي إلى ذلك، مما جعله الله من علاقةٍ تكوينيةٍ أو جزائيةٍ بين الأشياء وأسبابها.

{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } بما تثيره الرسالة من قضايا يختلف الناس عليها، ليتخذ كل فريق منهم موقفاً منها، فيكون ذلك فتنةً لهم واختباراً، في ما يأخذون به من الحجة التي يقدمها الأنبياء على الإيمان أو يرفضونه منها، ليتبين المعاند والمنقاد منهم، ويتميز المؤمن من الكافر. وهكذا كان النبي صالح يستهدف من حديثه هذا معهم، أن يُرجعهم إلى أنفسهم، ليتخلصوا من الأوهام المريضة التي تفسر لهم القضايا بطريقةٍ غير صحيحة، فتبعدهم عن حقائق الحياة وخط المسؤولية.

{وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } كانوا يخططون لإبقاء المجتمع تحت سلطة الكفر، في أجواء الشرّ التي تفسد الواقع بالامتيازات الظالمة التي يحصل عليها المستكبرون على حساب المستضعفين، وبالانحراف الفكري عن خط الإيمان الذي يوحّد للناس حياتهم على أساس الارتباط بالله وحده، ليكون الارتباط بكل شيء في الحياة من خلاله. وهكذا كان هؤلاء يشعرون بخطورة الرسالة الجديدة على مواقعهم ومخططاتهم، ويخافون أن يكون الموقع المميز المستقبلي لصالح وللمؤمنين معه على حساب مواقعهم الخاصة، فيتغيّر الواقع من حولهم لمصلحة الرسالة، وتختلف المفاهيم في مسائل التقييم للأوضاع وللأشخاص، فبدأوا يخططون لمواجهة هذا الخطر الجديد عليهم ويتآمرون على صالح ومن معه.

{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ } وتشاركوا في إعطاء الميثاق الذي نجتمع عليه بالحلف بالله وتنفيذ ما نتفق عليه وعدم خيانته، {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي لنقتلنّه في الليل في ما يعنيه التبييت من القصد إلى السوء ليلاً في ما يريد أن يقوم به الناس ضد بعضهم بعضاً من القتل ونحوه في جنح الظلام، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} من العشيرة إذا تحفَّز للثأر له {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} لأن الليل قد استطاع أن يغطّي العملية، فلم يعرف أحد ماذا حدث ومن الذي قام به، مما لا يجعل لأحد علينا حجّة أو مستنداً يحاسبنا عليه أو يكذبنا به، فيصدّقنا وليه في ما نؤكده له من المواقف عندما لا يجد لديه ما يثبت المسألة في مواقعنا الخاصة.

{وَمَكَرُواْ مَكْراً} في ما عقدوه من خطةٍ خبيثةٍ تستهدف مباغتة صالح وأهله ليلاً وقتلهم جميعاً، {وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في ما دبرناه بطريقةٍ سريعة خفية من إهلاكهم قبل أن يصلوا إلى صالح من حيث لا يشعرون، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} والمكر السيى يحيق بأهله، ويرتد على صاحبه. وهكذا خططوا لهلاك الرسول، ونفّذ الله تهديده بإهلاكهم جميعاً، فانظر واعتبر وفكّر أن الإنسان لا بد له من أن لا يأمن مكر الله.

{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ } أنفسهم بالكفر والتمرد، وبما ظلموا الناس من الوقوف في الطريق أمامهم ليحولوا بينهم وبين السير في طريق الهدى في خط الرسالة والرسول، وذلك هو حكم الله على عباده المتمردين الذين يرفضون الانسجام مع تعاليمه وأوامره ونواهيه، ويحاربونه في رسالاته ورسله، {إِنَّ فِي ذلِكَ لاََيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في ما يستنتجونه منه في أفكارهم من دراسة الحاضر والمستقبل في معطياته المماثلة للماضي على أساس القاعدة التي تحكم المسألة في الزمان كله، لأن الفكرة تتصل بطبيعة المبدأ في حركة الإنسان في الواقع، لا بالمرحلة الزمنية الخاصة، فمتى تحققت الظروف الموضوعية في أيّ زمان، فلا بد من أن تتحقق النتائج السلبية الملازمة لطبيعتها. وفي ضوء ذلك، نعرف أن قيمة العلم تكمن في حركة الفكر التي تربط بين القضايا وتقيس بعضها على البعض الآخر، لتأخذ من ذلك القاعدة التي تحكم الأمور كلها من موقع الوحدة التي تربط بين الأشياء المتماثلة، أمّا الجاهلون، فإنهم يتخبطون في ظلمات جهلهم، باستغراقهم في خصوصيات الواقع الصغيرة، بحيث يبتعدون عن التطلع إلى الآفاق البعيدة المستقبلية التي تنقذ الإنسان من الأخطار المحققة على صعيد الفكر والتأمّل.

{وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} لأنهم ساروا على الخط المستقيم في العقيدة والعمل بما يمثله خط الإيمان والتقوى الذي يقود صاحبه إلى النجاح والفلاح.