تفسير القرآن
النمل / من الآية 59 إلى الآية 69

 من الآية 59 الى الآية 69

الآيــات

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السماء ماء فَأَنبَتْنَا بِهِ حدائق ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خلالها أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رواسي وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أَءِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ* أَمَّن يَهْدِيكُمْ في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والاَْرْضِ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ* بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة بَلْ هُمْ في شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ* وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ* لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَسَاطِيرُالاَْوَّلِينَ* قُلْ سِيرُواْ في الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (59ـ69).

* * *

معاني المفردات

{ذَاتَ بَهْجَةٍ}: ذات منظر حسن يبتهج به من يراه.

{يَعْدِلُونَ}: يحيدون عن الحق.

{خِلاَلَهَا}: بين أماكنها.

{رَوَاسِيَ}: الرواسي: الجبال.

{ادَارَكَ}: تتابع وتلاحق.

{عَمُونَ}: عمون جمع عمٍ، وهو أعمى القلب والبصيرة.

{أَسَاطِيرُ}: خرافات.

* * *

مظاهر حكمة الله ووحدانيته

لقد كانت عقيدة التوحيد هي الأساس في رسالة كل نبيّ، لأنها ـ هي ـ وحدها التي تحدد للإنسان خط السير، وتوحّده في جميع مجالات الحياة نحو الإِله الواحد، كهدفٍ وحيد في العقيدة والعبادة والتشريع. وهذا ما استهدفه الكتاب في آياته، والرسل في دعواتهم، وهو ما تعالجه هذه الآيات في إثارة الأسئلة المتحديّة حول الإِله الواحد واليوم الآخر.

* * *

قل الحمد لله

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } في عملية إيحاءٍ داخليّ للمؤمن بكل الصفات الجلالية والجمالية التي تفتح قلبه على الله ليثني عليه بما هو أهله في صفات عبده، كما هو الأمر في صفاته في ذاته، لأن أيّ حمدٍ لأيّ مخلوقٍ راجعٌ إليه، لأنه مستمدٌ من فيوضاته ونعمه، فإذا كان الإنسان مظهر قدرة الله، فإن صفاته مظهر حكمته ونعمته، فكل حمد راجع إلى حمده، قلْها ـ دائماً ـ في أناء الليل وفي أطراف النهار، وفي جميع مواقع الحياة، لأن ذلك هو الذي يملأ قلبك بالله، فلا ينبض بالإِحساس بعظمة مخلوق إلاَّ ليكون ذلك إحساساً حياً بعظمة الله في عظمة خلقه.

{وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ليكونوا حملةً لرسالته، وأدلةً على توحيده، وهُداةً لتعاليمه، لأنهم في الموقع الرساليّ المميز الذي يفرض على الناس أن يرفعوهم إلى المستوى الأعلى في التقدير والتعظيم، فيعبرون عن ذلك بتحية السلام، التي تتناسب مع أجواء السلام الروحي الذي يعيشون له ويدعون إليه، كدليلٍ على وقوفهم معهم في ساحة التحدي مع الكافرين، وانفتاحهم على الجانب الرسالي من حياتهم، واستعدادهم للسير على منهجهم. وهكذا يريد الله للناس أن يعبّروا عن مشاعر الدعم والتأييد للرساليين، بكل الكلمات والمواقف التي تمثل قوّة الموقع الرساليّ في حركة الناس.

ثم فكروا في ما يوحي به ذلك من اختزان عظمة الله في النفس، والمقارنة بينه وبين غيره، مما يُشرك الناس به في العبادة، ليتساءلوا من قاعدة الفكر المنفتح المقارن:

{ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } وسيخرجون بنتيجة حاسمةٍ واحدة، هي أن الله هو الأعظم والأعلى والأقوى والأفضل في كل شيء، لأنهم المربوبون له وهو الرب، ولأنهم المحتاجون إليه وهو الغنيّ، ولأنهم المخلوقون الذين يستمدون كل شيء منه وهو الخالق، فأيّ فضل لهم لا يرجع إليه؟! ولعل إثارة هذا السؤال في الموقف العقيديّ هو لتسجيل الفكرة، لا لحاجتها إلى الإيضاح والتحليل. {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضَ} بما يتمثل فيها من عظمة الخلق ودقة الصنع، وضخامة القوّة، وتنوّع الخصائص والأشكال، وروعة الإبداع، وجلالة المظهر، وحكمة التدبير، واستقامة الحركة، فهل بعد هذا كله من أحد هؤلاء الذين يتخذهم المشركون شركاء لله تعالى، يستطيع خلق ذلك كله؟ فإذا كان الجواب هو النفي وهو الحقيقة الوجدانية التي تلتقي بالواقع وبالفطرة، فهل هناك جواب إلا الله؟

{وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أفرأيتم هذا الماء الذي يهطل من السماء، هل فكرتم في حقيقته وما هي عناصره ومكوّناته؟ وما هي الأسباب والقوانين التي حركته من مواقعه وأنزلته إلى الأرض في مواسم معينة، فتفاعل مع ترابها وبذورها، فأعطاها الحيوية والنموّ والحياة، حيث تحوّلت إلى حدائق وبساتين تبهج النفس وتسحر النظر؟ وهل كنتم تستطيعون أن تقوموا بذلك بجهدكم الخاص بعيداً عما هي القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الأشياء؟ وهل يمكنكم أن تنبتوا شجرها؟ وماذا تملكون من قدرات ذاتية في ذلك كله؟ هل هناك إلا الله وحده الذي أبدع ذلك كله كما أبدع كل شيءٍ في الوجود؟

{أَإِلَـهٌ مَّعَ اللَّهِ} ليكون شريكاً له في الألوهية وفي العبادة؟ وكيف يكون ذلك، فيمن لا يملك من مواقع القدرة وعناصر القوّة، في أيّ شيء، إلا ما أقدره الله عليه؟ وهل هو افتراض معقول؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} عن الخط المستقيم الذي يمثّل الحق كله في العقيدة والعبادة، من دون حجةٍ أو شبهة، فيعملون على المساواة بين الله وبين غيره.

{أَمَّن جَعَلَ الاَْرْضَ قَرَاراً} فهي مستقرة لا تهتز، وبذلك يرتاح الناس إلى العيش فيها والاستقرار عليها، بالرغم من حركتها الدائبة على مستوى اللحظة في دورانها المستمر، {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} في الفراغات الموجودة في الفُرَج الواسعة أو الضيّقة التي تتحرك فيها الأنهار، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال التي تمنع الأرض من الاهتزاز، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} في اختلاط الماء العذب بالماء المالح من دون أن يؤثر أحدهما على الآخر من خلال حاجز خفيّ، من قدرة الله، مانع من امتزاجهما واتحادهما في طعم واحد، كما هي طبيعة الأشياء. وربما أريد منه مواقع الماء المالح ومواقع الماء العذب في ما هي المسافة بين البحر والنهر، التي جعلت الماء المالح في مكان أكثر انخفاضاً من الماء العذب، فيستمد الماء المالح استمراره مما يأتيه من الماء العذب المتدفق من الأعالي، ولو اختلف الأمر وانعكس، لفسد الماء العذب، واختلفت الحياة.

{أَءِلهٌ مَّعَ الله} يشاركه خلقه ويستعين به على أمره لتعبدوه من دونه أو معه، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ولا يميزون حقائق الأشياء، سواء منهم الذين يعيشون الشك والشبهة أو الذين يعيشون الغفلة أو العناد في الفكرة المضادّة.

* * *

أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء

{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} فهو الذي يرجع إليه المضطر إذا ضاقت به الأمور، واشتدت عليه الضغوط، وكثرت حوله التحديات، وتعقدت أمامه المشاكل حتى بدأ يحس بالاختناق، ويشعر بالحصار الذي يطوِّقه من جميع الجهات، فيرجع إلى ربه في إحساسٍ خفيٍّ بالحاجة إليه، وبأنه ـ وحده ـ الذي يملك التخفيف عنه، والإِجابة له، وكشف السوء عنه، من خلال الوسائل الطبيعية التي أعدّها الله في الكون والحياة، أو من خلال الوسائل غير الطبيعية التي يهيّئها له من غامض علمه، وخفايا قدرته.

فقد تكفل الله لعباده باستجابة الدعاء، وأرادهم أن يتوجهوا إليه بذلك كلما وقعوا في الاضطرار، ووقعوا في قبضة السوء والبلاء. فمن هو القادر على ذلك كله، وهل يملك غيره ممن تدعونهم من دون الله، القدرة على تحقيق أماني العباد ومطالبهم واستجابة دعائهم في كل ذلك؟ وقد أراد الله لعباده أن يشعروا دائماً بالحاجة إليه في كل مواقع الضعف والشدّة والبلاء، وبالارتباط به في كل أوضاعهم الخاصة والعامة، وبالحقيقة الإيمانية التي توحي إليهم بأنه ـ وحده ـ هو سرّ الفرج والعافية والحياة، كما أراد لهم أن يتحسسوا ذلك في مشاعرهم، ويدركوه في عقولهم، ويعبروا عنه بألسنتهم، ويحركوه في حياتهم في وقوفهم بين يديه، وابتهالهم إليه بالدعاء، وركوعهم وسجودهم أمامه، في ما يثير في وجدانهم التواصل معه حتى في القضايا الصغيرة التي تمر بحياتهم. وقد وعدهم الله بالإجابة في رفع اضطرار المضطر وكشف السوء عن المبتلى، وتفريج كرب المكروب، وتنفيس غم المغموم، في ما ينزل عليهم من ألطافه، ويحركه في حياتهم من أسبابه، وفي ما يهيى لهم من الوسائل الكفيلة بذلك من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، فهو يعرف شؤونهم، وعمق حياتهم، والمصلحة في ذلك كله، لأنهم قد يطلبون ما يرغبون فيه مما لا يتناسب مع مصلحتهم، وقد يحسبون ما لا خير فيه، خيراً لهم.

وهكذا تكفل الله لعباده بإجابة الدعاء في مواقع رحمته بما يتناسب مع نظام الحياة، ومصلحة الإنسان، وأراد للدعاء أن يثير في نفس الإنسان المؤمن المشاعر الإيمانية في حركة الغيب المنطلق في رحاب الله، بالإضافة إلى الأحاسيس الطبيعية في حركة السنن الكونية المنطلقة من إرادة الله في حركة الكون، لئلا يغرق الإنسان في الأحاسيس المنفعلة بالمادة فينسى الله، أو يعيش في حصار المشاكل الضاغطة على حياته، فيقع في قبضة اليأس من روح الله، أو يفقد المتنفس للفرج في حالات الضيق والشدة، فيختنق في داخل مشاعره المحاصَرة، ليبقى يثير التساؤل في عقله ووجدانه، ليحدد اتجاه السير في حياته الروحية الإيمانية {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.

* * *

ويجعلكم خلفاء الأرض

{وَيَجْعَلُكُمْ خلَفاءَ الأرض} في ما يمهّده لكم فيها من ساحات الحياة، ويمكنكم فيها من القدرات التي تستطيعون من خلالها أن تحرِّكوا كل عناصرها وتنظّموا أوضاعها، وتقودوا حركتها، وما يسخره لكم منها من قوى وقوانين، بحيث تخضع لكل ما تريدون وتحبون. وتلك هي الكرامة التي أكرمكم فيها الله من موقع إنسانيتكم، فجعل الأرض تحت تصرفكم واختياركم في ما أراده لكم من حركةٍ وخطة حياة، وحمّلكم من عبء المسؤوليّة في وعي الرسالة في امتداد الأرض وامتداد الزمن، بحيث جعل لكل جيل منكم مرحلةً يخلف فيها الجيل المتأخر الجيل المتقدم، لتبقى مسألة الخلافة في الأرض للإنسان، ساحةً للمسؤولية العامة، وحركةً في معنى الزمن الذي لا يعيش الفراغ في كل مواقعه من حركة الإنسان فيه، وبذلك كانت علاقة الإنسان بالله تنطلق في عمق الحاجة إليه، حيث يلجأ إليه ليكشف عنه السوء في كل ما يعرض له من مشاكل الحياة وآلامها عندما تضيق به الأمور، فلا يجد ملجأً إلا في رحاب الله، وفي ما يمهده له من خلافة الأرض، ما يجعل وجوده فيها وحركته في ساحتها خاضعاً لإرادته في كل شيء، فكيف يغفل الإنسان عن ذلك كله فينسى ربّه؟ وهل يملك لنفسه شيئاً بعيداً عن إرادة الله الذي يحيط بوجوده كله؟ {أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أيّها الغافلون الذين يكفرون بالله، ويستغرقون في شهواتهم وملذاتهم وأوضاعهم اللاهية، فيعيشون في غيبوبة النسيان، ولا يدركون ما هناك من مسؤوليات وما ينتظرهم من النتائج الصعبة في يوم القيامة.

{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} عندما يظلم الكون من حولكم في الليل، أو عندما تطبق عليكم كل عناصر الظلام الأخرى، وليس هناك من علامات تدلكم على الطريق، فهل تدركون من هو الذي يهيّيء لكم أسباب الهدى في ما أودعه من علامات كونية في السماء والأرض، وما ألهمكم إيّاه من عناصر المعرفة التي تحدد لكم خط السير، عبر ما تستحدثونه من علامات وتكتشفونه من قوانين في البر والبحر؟!

{وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَديْ رَحْمَتِهِ} عندما تحسّ الأرض بالظمأ والجفاف، ويشعر الإنسان بالعطش، فتأتي الرياح العاصفة لتوحي بأن الأرض سترتوي بالماء الذي يفيض في جنباتها ويملأ خزاناتها، ويبعث الحياة في حبّات التراب، وبأنّ الإنسان سوف يجد ما يبلّ به عروقه، ويعيد إليه الحيوية من جديد. وهكذا تنطلق الرياح لتزرع الحلم في الكون، ولتدفع بالبشارة إلى وجدانه، قبل أن تنزل الرحمة وهي المطر الذي يبعث الحياة في أعماق الأرض والإنسان، ليجتمع الحلم والواقع في نعمة الله. إنه الله وحده الذي يرسل ذلك، ويفيض على الكون بالرحمة، فكيف يشرك الإنسان به؟ وهل هناك غيره من يملك ذلك كله؟ {أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} لأن كل هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئاً من القدرة يقترب من قدرة الله، فكيف يمكن أن يكونوا شركاء وليس لهم من قدرةٍ إلا من خلاله؟

{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} فهو الذي خلق الخلق بكل خصائصه وعناصره ومظاهره التي توحي بعظمة الخلق وقوّة الخالق، وهو الذي يعيده ويرجعه كما كان بالبعث، لأن القدرة على الإِيجاد من عدم تدل على القدرة على الإعادة بعد الموت، لأنّ عمق القدرة لا يختلف في البداية عن النهاية، بل قد تكون البداية أكثر صعوبةً من الإعادة، لأنها تنطلق من دون مثال، بينما تكون الإعادة من خلال المثال، وتلك هي الحقيقة الإلهية التي لا بد للناس من أن يخضعوا لها من موقع الوجدان الذي يتطلع إلى الأشياء بوعيٍ، ويحاكمها بفكرٍ، ويبلغ نتائجها بإيمان.

{وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ} في ما أودعه في السماء من أسباب الرزق من الأمطار ونحوها، وفي ما جعله في الأرض من الأسباب التي تدفع إلى الناس بكل ما يحتاجونه من أصناف الغذاء التي تقيم حياتهم وتحفظ وجودها، {أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم الشرك. فإن مسألة الصدق والكذب في قضايا العقيدة تنطلق من الأدلة والبراهين التي يقيمها كل فريق على صحة دعواه، في ما توحي به من عناصر الحقيقة الكامنة فيها. وهكذا ترون مما قدمناه لكم من الأدلة على وحدانية الله في قدرته وفي عظمته، وفي خضوع كل شيء في الوجود له، وفي ارتباط كل موجود به من خلال حاجته المطلقة إليه، واستغنائه عنهم جميعاً، ما يدل على أنه الله الواحد الذي لا شريك له. فإذا كنتم تنكرون ذلك وتلتزمون الشرك، فقدّموا لنا البرهان عليه لنناقشه من موقع الفكر، لتكون الحقيقة بنت الحوار، وليكون الحوار الهادىء العميق أساس الوصول إلى النتائج الحاسمة في المعرفة، فبذلك يحترم الإنسان نفسه، ويحترم حركة الحياة من حوله.

* * *

الأسلوب القرآني العقلاني في حركة الصراع

وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يحرّك مواقع الصراع الفكري في ساحات العلم والمعرفة، لتكون الحجة التي يقدمها كل فريق على قناعاته، هي القوّة التي يملكها في ذاته ليقنع بها نفسه ويقدمها إلى غيره ليحصل على قناعاته الإيمانية من خلال المناقشة الفكرية العميقة التي تواجه عمق الأشياء بكل صفاءٍ وقوّة. وذلك هو سبيل الإيمان في ما يريد الإسلام أن يبلغه من إيمان الناس بحقائقه، فلا يريد منهم الإيمان الأعمى القائم على إثارة الانفعالات، لأن الانفعال قد يثير الفكرة في الوجدان في بعض الحالات، ولكنه يطردها عند تبدل الانفعال وتحوّله إلى جانب آخر في حالةٍ أخرى، بينما يركز العقل الإيمان على الحجة القاطعة ويتابع تأكيدها فيزيدها وضوحاً وعمقاً وإشراقاً وثباتاً. وذلك هو سرّ قوة الإسلام في حركة إيمانه من موقع عقلانيته في مواجهة قضايا الإنسان المؤمن العقلاني، بدلاً من الإنسان المؤمن الانفعالي الساذج.

وهكذا نستوحي من ذلك، أن على الداعية إلى الله، أن يأخذ بأسباب المعرفة في حركته الرسالية في ساحة الصراع الفكري والعقيدي، ليملك الحجة القوية التي يستطيع أن يقنع بها الناس، ويتحدى بها الشبهات التي يثيرها الكافرون حول عقيدته، وليواجه الحجة بالحجة، ليكون الحوار منطلقاً من قاعدةٍ في الفكر لا من حالةٍ في الانفعال.

* * *

الله عالم الغيب

{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} لأنه هو وحده الذي يملك السموات والأرض في كل آفاقها وأوضاعها وقضاياها وأسرارها، لأنه الخالق الذي يعرف كل سرّ خلقه من خلال إحاطته به وهيمنته عليه. أمّا غيره من كل هذه الموجودات الحية، فلا يملك من أمر السماء والأرض شيئاً إلا ما ملّكه الله منهما، ولا يعلم من أسرارهما شيئاً إلاّ ما عرفه الله منهما. فهو وحده الذي يعلم الغيب ويدبّر الكون من خلال علمه كما يدّبره من خلال قدرته. فكيف يمكن أن يكون هؤلاء الذين يتخبطون في ظلمات الجهل في ما يحسّونه، وما لا يحسّونه، آلهةً يشاركون الله ألوهيته وهم لا يملكون من خصائصها شيئاً، حتى في خصوصيات المعرفة للمستقبل التي تعتبر عنصراً ضرورياً للتخطيط الكوني، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فهم يواجهون مستقبل الآخرة التي يتحدد فيها أمر المصير، بنظرةٍ حائرةٍ لا يملكون معها أيّ موقع للمعرفة، ليكون ذلك أساساً لتدبير أمورهم فضلاً عن تدبير أمور غيرهم، فكيف يمكن أن يكونوا آلهة؟

{بَلِ ادّاركَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي انقطع علمهم بالآخرة وزال بحيث لم يبق منه شيء انطلاقاً من استغراقهم في علمهم بالجهات الأخرى من الدنيا حتى نفد علمهم، فلم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة، وعلى هذا الأساس كان علمهم بها ساقطاً كما لو كان موجوداً ثم ذهب باعتبار وجود الاستعداد له وعدم صرفه فيها. وهناك وجهٌ آخر وهو، أن «ادّارك» بمعنى تكامل واستحكم، وتطبيق ذلك في معنى الآية على وجهين ـ في ما ذكره صاحب الكشاف ـ أحدهما: «أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب منه، قد حصلت لهم ومكّنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون، وهو قوله: {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم.

فإن قلت: إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وإن العباد لا علم لهم بشيء منه، وإنّ وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ قلت: لمَّا ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون منه، وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم: وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد أن يكون ـ وهو وقت جزاء أعمالهم ـ: لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به.

الوجه الثاني: أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكّم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي، الطريق إلى علمه مسلوك، فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته»[1].

وقد ناقش صاحب الميزان هذا التفسير، بأنه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشك والعمى[2]. ولكننا نلاحظ أن المعنى الذي ذكره صاحب الكشاف أقرب إلى جوّ التعبير، وذلك من خلال التأكيد على علمهم بالآخرة مما يتناسب مع توفر أسبابه، مع عدم وجود قرينةٍ لفظيةٍ على ما ذكره العلامة الطباطبائي في الميزان من صرف علمهم في أشياء أخرى بالمستوى الذي لم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة[3]. وعلى ضوء ذلك، ينسجم المعنى المذكور في الكشاف مع الفقرة التالية: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} من خلال عدم أخذهم بأسباب العلم، وحيرتهم أمام حديث الأنبياء عن الآخرة، ما يجعلهم في موقع الشك {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} لا يدركون منها شيئاً، لأنهم استغرقوا في أجواء اللهو والعبث، وانصرفوا عن التفكير في أمر الآخرة، فعاشوا في مواقع العمى الفكري والروحي.

ومن هنا نفهم أن هذا التدرّج في الحديث عنهم ينطلق من دراسة حالتهم النفسية أمام واقع الدليل الذي يفرض الإيمان بالآخرة ويؤدي إلى العلم بها، أو يثير التفكير بها، ما يجعل الانصراف عنه وقوعاً في الشك والعمى عن الحقيقة.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} في نظرة الاستبعاد أمام الشيء الخارج عن المألوف، ما يجعل الرفض رفضاً في مستوى الشعور الحسي، لا في مستوى الإدراك العقلي والنظرة الوجدانية العميقة. وتلك هي مشكلة السطح الفكري الذي يتحرك من خلاله هذا النموذج من الناس الذين لم يأخذوا بأسباب المعرفة من مواقعها الفكرية، بل أخذوا بها من مواقعها الشعورية الانفعالية، فهم لا يناقشون المسألة من ناحية علاقتها بقدرة الله الذي يملك أمر الإِعادة كما يملك أمر البدء، بل يناقشونها من ناحية عدم رؤيتهم لمثل هذا الأمر في ما شاهدوه من مشاهد الحياة والموت، فكيف يمكن أن يخرج الموتى منهم أو من آبائهم من جوف الأرض، ليعودوا إلى الحياة ثانيةً..؟ وكيف يمكن أن يصدقوا ذلك وهم لم يألفوه في حياتهم، ولم يدخلوا في تجربته من موقع المعاناة؟

{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} في ما أخبرنا به الأنبياء الماضون والمحدثون، ولم يتحقق لنا هذا الوعد، ولا لآبائنا، ما يوحي بأن المسألة لا تصل إلى مستوى الحقيقة، بل تبقى في حجم الأسطورة التي يثيرها الكثيرون في آفاق الخيال، {إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـاطِيرُ الأَوَّلِينَ} الذين كانوا يتحركون في عقيدتهم في رحاب الخرافة التي اختلقوها ليفسروا بها الكثير مما يجهلونه من قضايا الكون والحياة.

{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ} وتطلعوا إلى تاريخ الأمم التي كانت قبلكم ممن كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر وتمرّدوا على حقائق الإيمان وشرائعه من دون حجةٍ ولا برهانٍ، فلم يكن لديهم أساس من العلم والمعرفة في ما يرفضونه، أو ينحرفون عنه من الحقيقة الإلهية والخط الرسالي، ما يجعل المسألة في حجم الجريمة، لأن مفهوم الجريمة في المضمون القرآني، لا يقتصر على التمرّد العملي في ما يقوم به الناس ضد بعضهم البعض، أو ضد أنفسهم، بل يتعداه إلى التمرد الفكري الذي لا يملك الإنسان مقوّماته، ولا يتحرك به من مواقع القناعة، بل من مواقع العناد، ولا سيّما إذا كان في ذلك افتراءٌ على الله أو تكذيبٌ بآياته. وهذا مما جاءت به الآيات مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21 ]. ما يجعل ذلك في المستوى الأعلى من الظلم الذي هو جريمة إنسانية في ما يمثله من حالةٍ عدوانية.. ولهذا فإن الآية تجعل من الدعوة إلى السير في الأرض لدراسة مصير أمثال هؤلاء الكافرين ممن سبقهم، تحذيراً لهم عن ملاقاة المصير نفسه {فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } لتتفادوا الوقوع في النتائج السيئة القاسية من خلال ذلك.

وقد يقول قائل: إن هذه الآية ليست ردّاً على ما أثاروه من الاستبعاد، ومن التأكيد على أسطوريَّة هذه العقيدة، بل هي مجرد تحذير وتهديد، مما لا ينسجم مع الأسلوب الفكري في بناء العقيدة.

والجواب عن ذلك: أن المقصود من التحذير هو إيجاد صدمةٍ نفسيةٍ قويةٍ ضد حالة الاستخفاف الفكري التي يواجهون بها مسألة العقيدة، بالاستبعاد تارة، وبالاستهزاء أخرى، وباللامبالاة ثالثةً، ما يجعل من حالتهم حالةً عدوانيةً مضادّة، تستهدف إسقاط الموقف لا مناقشة الفكرة، ولذلك فإن الرّد لا بد من أن يكون ردّاً مضاداً للثقة النفسية التي يتمثلونها في موقفهم، ليدفعهم ذلك إلى إعادة النظر في أسلوبهم العملي من خلال الخوف من نتائج المصير.

وهذه هي الطريقة الحكيمة التي ينطلق بها المنهج القرآني، في مناقشة مواقع الفكر بمواقع الفكر، ومواجهة قضايا التمرد والاستخفاف واللامبالاة، بأسلوب الصدمة النفسية القائمة على التحذير والتهديد، لأن ذلك هو خطّ الحكمة في وضع الشيء في موضعه.

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:3، ص:156ـ157.

(2) تفسير الميزان، ج:15، ص:388.

(3) (م.س)، ج:15، ص:388.