تفسير القرآن
النمل / من الآية 70 إلى الآية 75

 من الآية 70 الى الآية 75

الآيــات

{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ* وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُّبِينٍ} (70ـ75).

* * *

معاني المفردات

{رَدِفَ}: فعل ماضٍ بمعنى: لحق وتبع.

{تُكِنُّ}: تستر وتخفي.

* * *

الله يخاطب نبيّه: لا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق

{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لأنهم لا يستحقون مثل هذه العاطفة النبوية الطاهرة التي تنطلق من المواقع الإنسانية الصافية، في ما تتحرك به مشاعر النبوة من الألم والحزن على الذين يلقون بأنفسهم في التهلكة ويعرّضونها للضلال في الدنيا، والعذاب في الآخرة. فهؤلاء الذين فتح لهم الله كل فرص الهداية، فأهملوها وواجهوها بالهروب والتمرّد واللاّمبالاة، ووجّه إليهم ألطاف رحمته، وفتح لهم أبوابها، فأغلقوها على أنفسهم، ورفضوها بكل عناد وإصرار، كيف يستحقون المشاعر الإنسانية والنبوية الطاهرة التي تمردوا عليها.

{وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ويدبّرون في الخفاء من وسائل المواجهة للدعوة، والرفض للرسالة والرسول، بل لا بد من أن تتقبل ذلك بشكلٍ طبيعيّ، باعتبار أنه من طبيعة الأشياء التي تفرضها ساحة الصراع في ما تنطلق به الرسالات التي تريد أن تغيّر الواقع على أساس مفاهيمها، فتهاجم كل أشكال الشر والكفر والفساد، بالمضمون الفكري تارة، وبالحركة القوية أخرى، وبالأسلوب المتحرك المتنوع في أخلاقيته ومرونته وواقعيته ثالثة، ما يشكل خطراً على مواقع النفوذ في ساحة الأمر الواقع، فتتحرك للدفاع عن نفسها بالتعسف والقهر والقتال، وبالتخطيط العملي الذي يعمل على إرباك حركة الرسالة والرسول في مجالات الدعوة والتغيير.

وفي ضوء ذلك، لا بد من مواجهة المسألة بطريقةٍ هادئةٍ واعيةٍ لا تخضع للانفعالات التي يضيق بها الصدر، وتتعقد فيها المشاعر، بل تتحرك للتخطيط المضاد، والحركة المضادّة، من أجل إكمال المسيرة في خط الأساليب الواقعية التي تغيّر الواقع بأدوات الواقع، لا بالانفعال.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } في أسلوب التحدي الذي يطلق الكلمة التي يعرف أنها لا تتحرك في اتجاه الردّ الإيجابي، لأن التوقيت لا يحمل أيّ معنىً حاسم في ميزان القضية المطروحة، ما يجعل من الجوّ لوناً من الإحراج الجدليّ الذي يستهدف تسجيل النقاط، لا الوصول إلى النتيجة المطلوبة، وهي القناعة باليوم الآخر من حيث الأساس في دائرة الحجة اليقينيّة والانطلاق من ذلك إلى مواقع الالتزام بالخط الإيماني في أمر الله ونهيه؛ {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أي لحق بكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب وأنتم لا تشعرون، فما الذي يؤمنكم من ذلك؟ وما هي النتيجة من كل هذا الأسلوب الجدلي الساخر الذي تثيرونه في مواجهة الرسالة والرسول؟ هل تسقطون به حقيقةً، أو تحلّون به مشكلة، أو تغيّرون به الواقع الذي يفرض نفسه عليكم في المواقف الحاسمة؟

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} في وجودهم بعد أن كانوا عدماً، وفي حركة هذا الوجود في ألوان النعم التي لا تعد ولا تحصى في آفاق الكون وفي مفردات الحياة، ما يفرض عليهم الشكر بالكلمة والعمل، في ما يعبر به الناس عن خضوعهم وعبادتهم واعترافهم بالجميل، والامتنان لمواقع النعم في حياتهم، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لأن القليلين هم الذين ينطلقون من وعي الألوهية في موقع وجود الإنسان في امتداد النعم في دائرة الرحمة الواسعة الشاملة للحياة كلها، وللإنسان كله، لأنهم هم الذين يفكرون ويتأملون ويثيرون الحوار في كل مفردات العقيدة، ليصلوا من خلال ذلك إلى القناعة الوجدانية اليقينية. أمّا الأكثرية، فإنها تتحرك ـ غالباً ـ من عمق الانفعال، وسذاجة العاطفة، وحركة الغريزة والمصلحة، ولذلك كانت الغفلة هي الطابع الذي يطبع حياتهم، ويتمثل في مسيرتهم، فيتعاملون مع النعم الكثيرة تعاملهم مع الأشياء المألوفة التي لا تثير فيهم أيّ انتباه، بل يتابعون حياتهم معهم كأنهم لم يروا شيئاً جديداً في ما يمكن أن يناقشوه أو يفكروا فيه.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} مما يخفونه من أفكارهم الشرّيرة ونواياهم السيئة وعقائدهم الفاسدة، فلا يخفى عليه شيء من ذلك {وَمَا يُعْلِنُونَ} في ما يفصحون به عن مواقفهم العلنية {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالأرْضِ} مما يغيب عن الإنسان علمه ولا يغيب عن الله أمره {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ليجزيهم الله على ما عملوه من خير أو شرّ.