تفسير القرآن
القصص / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 6

 المقدمة + من الآية 1الى الآية 6
 

سـورة القصص
مكية ـ وآياتها ثمان وثمانون

الآيــات

{طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءهمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُريَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} (1ـ6).

* * *

معاني المفردات

{عَلاَ في الأرض}: العلوّ في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار.

{شِيَعاً}: الشيع: جمع شيعة وهي الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق، وكل فرقة شيعة، وسموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضاً[1].

{نَّمُنَّ}: الأصل في معنى المنّ ـ على ما يستفاد من كلام الراغب ـ الثقل، ومنه تسمية ما يوزن به منّاً[2]، والمِنّة: النعمة الثقيلة، ومنَّ عليه منّاً: أي أثقله بالنعمة.

* * *

صراع النبوة والطغيان

{طسم} من الحروف المقطعة في القرآن التي تقدم الحديث عنها.

{تِلْكَ آياتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} التي ينبغي للمؤمنين أن يقرأوها ويتأملوها ويستلهموا معانيها في حياتهم بوعيٍ ووضوح، لأنها تقدم الفكرة بعمق وجلاء، من دون غموض ولا تعقيد {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ} اللذين كانا يمثلان الصراع الحاسم، بين النبوّة المتمثلة بموسى(ع) في إيمانها بالله والتزامها بقضية الإنسان في حريته وعدالة قضاياه، وفي انطلاقها في خط المواجهة للمستكبرين من موقع المسؤولية للدفاع عن المستضعفين، وبين ما هو الطغيان والاستكبار المتمثل بفرعون الذي عاش عبوديته لذاته، فتعقدت أفكاره ومشاعره تجاه الناس، وتضخمت شخصيته في نفسه حتى ظن أنه إله وطلب من الناس أن يعبدوه، ولذلك كان رد فعله عنيفاً أمام الدعوة التوحيدية لله والإعلان النبوي الحاسم له بأن يترك الناس لحرياتهم في الفكر والحياة... إنه الموقف المتحرك بين الإنسان الذي يعيش لربه وللناس من حوله ليؤكد حركة الرسالة في الحياة، بعيداً عن ذاته، وبين الإنسان الذي يعيش لذاته وللنوازع الشرّيرة في مجتمعه، بعيداً عن الله.

وهذا الموقف لا يمثل حالةً تاريخيةً فريدة، بل هو الموقف الدائم في صورة الصراع الدائر في الحياة، بين الإيمان والكفر، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم، ولذلك أراد الله للناس أن يتمثلوه بتفاصيله، ليأخذوا منه الفكرة والتجربة وحركة الرسالة في الواقع من موقع الحق، لا من موقع الخيال القصصي الغارق في الضباب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ يواجهون التاريخ بوعي الإيمان، فيأخذون منه العبرة، ويستفيدون من درس الماضي لحركة الحاضر والمستقبل. ولذلك كانت التلاوة لهم، في الوقت الذي يريد الله للناس كلهم أن يسمعوها ويفكروا فيها، لأنهم ـ وحدهم ـ الذين يحملون مسؤولية الكلمة في ما يسمعونه أو يقرأونه منها.

* * *

فرعون الطاغية

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ} بما كان يعيشه في ذاته من عقدة الاستعلاء والاستكبار على الناس، من خلال الامتيازات العائلية التي كان يملكها، والأموال التي كان يحويها، والجماعات التي كانت تحيط به وتتزلف إليه، وتقدم له الطاعة والولاء، ما جعله يشعر بنفسه كربٍّ أعلى لهم، لأنه لم يجد صوتاً يرتفع في مواجهته ليقول له: «قف مكانك، ولا تتعدَّ حدودك، واخشع لربك الذي خلقك وأنعم عليك»، فامتد في طغيانه، وابتعد عن الخط المستقيم {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ففرّق كلمتهم، ومزّق وحدتهم، وأثار النزاع والخلاف بينهم على مستوى علاقات الأفراد، من خلال المصالح والأطماع الذاتية، وعلى مستوى علاقات الجماعات، عبر الأوضاع العائلية والامتيازات الطبقية وغير ذلك، ما يجعل المجتمع مستغرقاً في مشاكله وخلافاته، مشدوداً إلى الآفاق الصغيرة التي تحيط به، مبتعداً عن قضايا المصير المتمثلة بالإنسانية والحرية والعدالة..، خاضعاً للقوّة المستعلية المستكبرة التي يعمل على الخضوع لها، لتتدخل في شؤونه، ولتتحكم في حياته. وهذا هو أسلوب الطغاة في كل زمان ومكان في إحكام سيطرتهم على الشعوب، بالعمل على إثارة الانقسامات والخلافات بين أفراد الشعب، لينشغلوا بمشاكلهم الذاتية عن التفكير في مواجهة الطغاة في مخططاتهم العدوانية. وهكذا كان أسلوب فرعون في هذا الجانب من خططه، حيث اختار قسماً من الناس ليكون فريقاً له، واختار فريقاً آخر ليكونوا ساحة لتجربة ظلمه وتنفيس عقدته {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في عداد الأسرى الأرقّاء الذين يستخدمهم في جميع حاجاته، ليكونوا اليد العاملة المجانية التي توفر له كل ما يريد من دون خسارة، وكان {يُذَبِّحُ أَبْنَآءهمْ وَيَسْتَحييِ نِسَاءهم} لاستخدامهن في شؤونه وشؤون طبقته الاجتماعية.

وقد نقل البعض في سبب ذلك، أن لهم عقيدةً غير عقيدته، فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم ويعقوب، ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد. وناقش بعضٌ في ذلك معتبراً أن بني إسرائيل لم يكونوا في الخط الإبراهيمي التوحيدي، ولهذا قالوا لموسى(ع) بعد خروجهم من البحر عندما وجدوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وذكر الشيخ المراغي في تفسيره: «أن فرعون إنما اضطهد بني إسرائيل لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلّبوا عليها المصريين، والغلب الاقتصادي أشد وقعاً من الغلب الاستعماري».

وذكر بعضهم: «إن كاهناً قال لفرعون: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكه». وهناك قائل: إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى بشروا بمجيئه، ولما علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل.

ولعل الرأي الأخير هو الأقرب إلى الذهن، لأن فرعون لم يكن في موقع الدفاع عن العقيدة، ولهذا لم نجد موقفه من موسى دفاعاً عن عقيدته، بل كان دفاعاً عن ملكه، كما أن الوضع الاقتصادي لم يكن خاضعاً للنظام الذي يمكن أن تتسلط فيه الطبقة الدنيا على الطبقة العليا، لوجود ضوابط متنوّعة، من ذهنية العبودية المسيطرة على الفئات الكادحة، ومن طبيعة المواقع الاقتصادية لحركة الثروة، ومن حالة التخلف المهيمنة على الواقع كله. ونحن نعرف أن المجتمع الإسرائيلي آنذاك لم يكن منطلقاً من حالة ثورةٍ أو تمرّد، ولم يكن منفتحاً على حالة طموح في اكتساب المواقع المتقدمة في السلطة أو في الدائرة الاقتصادية، بل كان هناك نوع من الاستسلام الخاضع للحكم الفرعوني ولطبقته الاجتماعية، ما يجعل الأقرب إلى التصور أن يكون هناك منامٌ رآه فرعون، أو كهانة، أو حديث نبويٌ سابق، بحيث ولّد خوفاً لدى فرعون، استباح به قتل الذكور من الأطفال وإبقاء الإناث، والله العالم.

{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين يتحركون في الحياة لخدمة ذواتهم على أساسٍ من إفساد حياة البلاد والعباد في العقيدة والحكم والشريعة، وفي حركة العلاقات العامة والخاصة.

* * *

المستضعفون هم الوارثون للأرض

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاَْرْضِ } وعاشوا الضعف في قدراتهم وأوضاعهم وأفكارهم، بحيث استغلَّ الأقوياء ذلك، فاضطهدوهم واستعبدوهم وصادروا حريتهم، وضغطوا على إرادتهم، وسيطروا على مقدراتهم، وحاصروا كل حركة للتحرر وللتمرد بما يملكونه من أدوات الضغط والحصار؛ ولكن الله لا يترك الحياة تسير على إرادة هؤلاء وتخطيطهم، بل يفسح المجال للأسباب الطبيعية الكامنة في نظام الكون والإنسان لتفتح ثغرةً هنا وثغرةً هناك، ولتمنح المستضعفين قوّةً من خلال إيجاد القيادة القوية الصالحة، وتهيئة الظروف الموضوعية الملائمة، وتحريك الأوضاع الجامدة، من أجل أن ينطلق المستضعفون لبناء قوتهم، واسترجاع حريتهم، وملكية قرارهم من جديد، بما يمن الله به على عباده لتحقيق التوازن في حركة الإنسان في الأرض، حتى لا يأخذ الظلم حريته في الثبات والامتداد، ولا تبقى الحياة على نهج واحد من الباطل والضلال، بل تخضع لعوامل التغيير التي تعطي الإنسان حيويته في الفكر والحركة، وتمنحه الأمل الكبير في إمكانات التغيير عند محاصرة الضغوط له، لئلا ينسحق في روحه تحت تأثير القوى الضاغطة الساحقة.

وعلى ضوء هذا، فإنّ الله لا يتدخل في الأمور عندما يمنّ على عباده المستضعفين بالطرق الغيبية دائماً من حيث الأساس، ولكنه يحرك الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويمنحها بعض وسائل الغيب في ما تحتاج إليه منه في بعض الحالات، وقد جعل الله هذا سنّةً له في حركة الحياة في نتائجها العملية على أساس الأسباب والمسببات. فلا يحسبنّ أحدٌ، أنَّ وعد الله بشيء، يحمل في داخله تدخّلاً إلهيّاً مباشراً يحقق للناس ما يحبّونه وهم جالسون في بيوتهم في استرخاء، بل لا بدّ لهم من الأخذ بالأسباب في الوصول إلى ما يريدون.

وهكذا يتحرك المستضعفون الذين يمنُّ الله عليهم في ما وعدهم بقوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} للأرض بما يرسلهم برسالاته ليكونوا أنبياء أو أوصياء أو قادةً في حكم الناس وإدارة شؤونهم وتنظيم حياتهم {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} الذين يرثون الأرض، إذ يريد الله أن يجعلهم خلفاء ويمكّنهم منها ويجعلها تحت سلطانهم، ليعرفوا من خلال ذلك أن الضعف ليس قضاء الله وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل، بل هو حالةٌ طارئة خاضعة لأسبابها مما يمكن أن يتحول إلى قوّةٍ عندما تتغير الظروف وتتبدل الأسباب بإرادة الله، بشكل غير اختياري للإنسان، أو بإرادة الإنسان، بما مكّنه الله من عناصر القوّة، ليعيشوا الفكرة المتحدية للقوّة الغاشمة التي يحركها المستكبرون ضد المستضعفين، ليواجهوا المواقف من خلال العمل على تنمية القوّة وتحريكها في اتجاه الحياة.

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ} بأن نعطيهم إمكانات القوّة، ونرفع عنهم سلطة المستكبرين ونمنحهم مواقع النفوذ في الحياة، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} في ما نريهم من مظاهر القوة ومواقعها للمستضعفين الذين يتحركون في خط المواجهة لهما ولسلطتهما {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} ويخافون، مما يخافه الطغاة من تنامي قوة المستضعفين وتعاظمها، بحيث تشكِّل خطراً مستقبلياً على ما يملكونه من سلطة الظلم وقوّة الاستكبار، أو مما كان يحذره قوم فرعون من نهاية ملكهم على يد شخص من بني إسرائيل.

وقد وردت بعض الروايات عن أئمة أهل البيت(ع) في الاستشهاد بهذه الآية في موارد معينة، كما في مسألة الإمام المهدي (عج) ونحوها، والظاهر أنها من باب الاستيحاء والتطبيق، باعتبار أن الآية توحي بأن سيطرة المستكبرين لا بد من أن تعقبها سيطرة المستضعفين، ما يجعل من القضية سنَّةً إلهيةً، ويوحي بأن النهاية في الدنيا سوف تكون للمستضعفين الذين يكونون ورثة الأرض وخلفاء الله.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، م:4، ص:310.

(2) مفردات الراغب، ص:494.