من الآية 7 الى الآية 14
الآيــات
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ* وَقَالَتِ امْرَأَة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ* فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (7ـ14).
* * *
معاني المفردات
{وَأَوْحَيْنَآ}: الإيحاء هو التكلم الخفي، ويستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام والإلقاء في القلب.
{اليَمِّ}: البحر وقد يكون المراد هنا نهر النيل.
{قُرَّةُ عَيْنٍ}: فرح وسرور. قال الراغب: وقيل لمن يُسر به قرةُ عين[1].
{فَارِغاً}: صفراً من العقل، لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون.
{رَّبَطْنَا}: ثبّتنا.
{قُصِّيهِ}: القص: اتباع الأثر، ومنه القصص في الحديث.
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ}: أي أبصرته عن جنابة أي عن بعد.
{بَلَغَ أَشُدَّهُ}: بلوغ الأشدّ، أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه ويكون في الغالب في الثمانية عشرة.
{وَاسْتَوَى}: الاستواء: الاعتدال والاستقرار.
* * *
نجاة موسى وتكريم الله له
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وحملت به أمه كما تحمل كل أم بولدها، بشكل طبيعيّ، لا تشعر معه بوضعٌ غير عادي، كما لم يشعر أحد من حولها بذلك، ووضعته كما يوضع غيره من الأولاد، وكان الخوف عليه كبيراً، لأن فرعون كان يأمر بذبح الذكور من بني إسرائيل.
وجاء الوحي من الله، بالإلهام القلبيّ الذي يعيش فيه الإنسان في لحظات الصفاء الروحي، في ما يحدّث الإنسان به نفسه عند الوقوع في مشكلةٍ صعبةٍ تحاصر وجدانه ولا يجد لها حلاً، مما يحيط به من الأوضاع، كما هو الحال مع أم موسى التي كانت لا تجد مكاناً تخبىء فيه ولدها، لأن العيون تحيط بها من كل جانب حتى أصبحت في حالةٍ من الذهول الذي أربكها ولم تعرف معه أن عليها أن ترضع وليدها حتى لا يموت من الجوع. وكانت الفكرة الإلهية تلمع في وجدانها، كمثل إشراقة النور {أَنْ أَرْضِعِيه} حتى يشبع، ليكون ذلك زاداً له يحفظ به حياته في هذه الرحلة الخفية، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} من جنود فرعون أن يأخذوه ويقتلوه ولم تجدي مكاناً تضعينه فيه بمأمن عن عيونهم، {فَأَلْقِيهِ فِى اليَمِّ} وهو البحر، أو النهر، في زورق صغير {وَلاَ تَخَافِي} عليه من الغرق، {وَلاَ تَحْزَنِي} على فراقه.
وكانت تستغرق في هذه الفكرة، تماماً كما لو كانت تستمع إلى شخص يكلمها من داخل شخصيتها، وتتلقى منه التعليمات في صورة الخطة المرسومة التي تجعلها تشعر بالأمن والطمأنينة. {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} في وقت قصير، في وضح النهار، بحيث لا مجال لأيّ خوف ولأيّ خطر عندما تصل الخطة إلى غايتها، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين يجعلهم الله في المواقع الروحية والفكرية العليا تمهيداً لمنحهم شرف تبليغ الرسالة. وربما كانت هذه الفقرة مما ألهم الله به أمّ موسى ليعرِّفها خطورة موقعها الكبير في ساحة الرسالات، وربما كانت مما اقتضاه حديث النهايات العظيمة التي اقتضاها لطف الله في شأن موسى. ولعل هذا هو الأقرب، لأن ذلك لم يكن معلوماً في حياة موسى في مراحلها الأولى في ما حكاه الله لنا من قصته في القرآن بأساليبها المتعددة المتنوعة الخصائص.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} بعد أن أخذت أم موسى بالوحي الإِلهي الداخليّ، ووصل الزورق الذي يحمل الوليد إلى ساحل قصر فرعون ليتم الله به إرادته {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} من موقع الرسالة التي تحدد العداوة والصداقة على أساس موقف الآخرين منها {وَحَزَناً} من خلال النتائج السلبية على حياتهم في ما تجرّه عليهم وعلى ملكهم من ويلات، {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} بما يعتقدونه من كفرٍ وضلال، ويمارسونه من ظلم وطغيان. ولذا فإنهم يستحقون هذه النهايات القاسية. وربما خالط فرعون بعضٌ من القلق والخوف والحيرة التي كادت أن تثير في نفسه بعض الأفكار الخائفة السلبية في ما يتعلق بهذا الطفل الجديد اللقيط، من هو؟ ومن أية فئةٍ؟ وهل هو من هؤلاء الذين يخاف منهم على مستقبله وملكه؟ ولكن امرأة فرعون الصالحة الواعية ربما كانت تعيش حالةً من الروحانية الخفية مما يمكن أن يكون قد ألهمها الله من أمره كظاهرةٍ تحترمها ولا تفهم طبيعتها، وهذا ما جعلها تقتحم على فرعون حيرته وفكره القلق: {وَقَالَتِ امْرَأَة فِرْعَوْنَ} التي كانت تتطلع إليه بمحبة، وهي جالسة إلى جانب زوجها {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} حيث يمكن أن نحصل من مستقبل أمره على نتائج طيبة {لاَ تَقْتُلُوهُ} كما تقتلون بقية أولاد بني إسرائيل، لأنها أحست أنهم قد يقتلونه على أساس التعليمات العامة {عَسَى أَن يَنْفَعَنَا} في ما نستقبله من حياةٍ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} لأننا لم نرزق ولداً يزيل الوحشة الداخلية عنا، وهكذا أطلقت كلمتها في المجتمع الذي كان منعقداً في حضرة فرعون {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} في ما وافقوا عليه من إبعاده عن القتل، وما يمكن أن يستقبلهم من النتائج المستقبلية الصعبة. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} كنايةً عن حالة الذهول والجزع الذي يستلب العقل، ما يجعل القلب فارغاً من العقل الذي يفكر بهدوء. فقد كان سماعها لوقوعه في يد فرعون صدمةً قويةً لها مما يمكن أن يحدث له من خطر القتل ونحوه. وذلك كما في قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم:43] أي جوف لا عقول فيها، ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوّف نخبٌ هواء
وذلك أن القلوب مراكز العقول، ألا ترى إلى قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ}؟[2].
ولعل هذا هو الأقرب من خلال سياق الآية، إلاّ أن هناك تفسيراً آخر ذكره في الكشاف واستقربه صاحب تفسير الميزان ـ "أي وأصبح فؤادها فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه".. وقد علّل صاحب الميزان ترجيحه له.. "أن ظاهر السياق أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها وسبب فراغ قلبها الربط على قلبها، وسبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ}"[3].
ولكننا نلاحظ على ذلك أن الآية تتحدث عن موقف أم موسى، كأمٍّ طبيعيةٍ لا تعرف مصير ولدها الذي رمته في البحر، فهي تفكر بحيرة وقلق في ما يعيش في داخلها من الأفكار المتضاربة، ولذلك فإن فراغ القلب يعني أنه لا يحمل في داخله ما يمكن أن يحقق لها الثبات والاستقرار في الموقف. أما قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} فإن الظاهر منه أنها كادت أن تصرّح بأمره وقصته للتعبير عن عمق القلق الذي يهزها، فتفسد بذلك الخطة الموضوعة في رجوعه إليها بالطريقة التي لا تثير أيّ شك في طبيعة القضية التي لو ظهرت لأمكن لفرعون أن يفكر بأنها مؤامرة مدبّرة ضدّه، أو ضد قراراته.
ولعلّ من المعروف أن القلق أبلغ تأثيراً على الإنسان من الطمأنينة والفرح في ما يتحرك به الإنسان لإظهاره، لأنه يهز عمق الكيان بما يشبه الزلزال، وقد يؤكد هذا المعنى قوله: {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فإن الربط على القلب يستعمل دائماً للتعبير عما يثبِّت القلب ويقوّيه، تماماً كما يربط على الشيء المنفلت ليقر ويطمئن، وذلك بإلهام الصبر والتسليم لأمر الله ووعده.
وعليه يكون معنى قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت لولا أن طمأنّا قلبها وسكنَّا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدّقين بوعد الله سبحانه المستسلمين لقضائه وقدره. ولعل دراسة الآية توحي بأن أم موسى لم تكن قد عرفت تفاصيل ما حدث لولدها عند فرعون كما يوحي بذلك قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي حاولي أن تقتفي أثره لتعرفي ماذا حلّ به؟ وأين استقر مكانه؟ ومن الذي احتضنه؟ ولو كانت تعرف ما حدث له عند فرعون، لما كان هناك حاجةٌ إلى أن تطلب من أخته أن تقتص أثره، لأن اقتفاء الأثر ينطلق من حالة الرغبة في معرفة نهاية الشيء أو طبيعته.. وحاولت أخته أن تعرف ذلك فسألت وبحثت {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} أي عن بعد {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لأنها لم تحاول أن تظهر اهتمامها بالموضوع، بحيث يلوح ذلك في حركاتها، بل نظرت إليه في أيدي الخدم نظرةً عابرةً، كأيّ شخص ينظر إلى الأشياء التي حوله بشكل طبيعي.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} فلم يقبل على ثدي أية مرضعة منهن، ما جعلهم يعيشون مشكلة صعبةً في تغذيته للإبقاء على حياته؛ وكانت أخته قد اقتربت من الجوِّ أكثر بحيث أمكنها أن تعطي رأياً، أو تشير بموقف، وقد عرفت طبيعة المشكلة، وقررت أن تتدخل ليرجع الولد إلى أمّه من خلال إحساسها الخفي بأن هناك وضعاً غيبياً خفياً لتحقيق الوعد الإلهي بعودته إلى أمه، في ما كانت تعيشه بالإلهام الداخلي الذي كانت تختزنه في وعيها الخاص {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ولعل من الطبيعي أن يكونوا قد استجابوا لذلك، وسلّموه إلى أمه التي جاءت بلهفة عند استدعائها من قِبَلهم ـ بواسطة أخته ـ.
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} عندما يعيش ولدها الحبيب في أحضانها وهي آمنة على حياته، بل إنها مسؤولة أمامهم عن المحافظة على حياته باعتبار موقعه المميز في بيت فرعون، فلا مجال للقلق ولا للحزن، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في ما يَعِدُ الله به عباده في قضاياهم التي تتحرك في موقع رحمته. وهذه هي الحقيقة الإيمانية التي لا شك فيها، لأن الذي يخلف الوعد أحد شخصين، إمَّا العاجز وإمَّا الكاذب، أو الجاهل الذي يظهر له الشيء بطريقة ثم يبدو له غيره فيتبدل رأيه وموقفه، وقد تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا ينفتحون على الأفق الواسع الذي يطلُّ بهم على مفردات القضايا من خلال القواعد العامة للإيمان، ولذلك فإنّهم يستغرقون في أوضاعهم الشخصية المزاجية أو أفكارهم الارتجالية السريعة، بعيداً عن أية معرفةٍ عميقةٍ في حقائق العقيدة والحياة، وهذه هي مشكلة الناس في كل زمان ومكان أمام الإيمان، فهي مشكلة الجهل التي تغلق عليهم أبواب الحق، وتدفعهم إلى الاندفاع نحو الباطل.
وهكذا تعهَّد الله موسى بالرعاية في طفولته حتى تكامل جسده واستقر عقله، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وبلغ مبالغ الرجال، وذلك بأن يصل إلى المرحلة التي تشتد بها قواه وهي مرحلة الثمانية عشر من السن ـ كما يقال ـ، {وَاسْتَوَى} بحيث استقر في حياته واعتدل في توازنه، {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وذلك عندما ألهمه الله معرفة موازين الأمور التي يستطيع بها أن يعرف مصادر الأحكام ومواردها فيبلغ بها مواقع العدل، وأعطاه الله من أبواب العلم ما يفتح له آفاق الحياة بحيث يتمكن من حلّ مشكلاتها، ومن السيطرة على تحريك قضاياها في الاتجاه السليم، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فنتعهدهم بالحفظ والرعاية ونرفع مواقعهم الفكرية والروحية في المستويات العليا من حركة العقل والفكر، ليكونوا أكثر قدرة على الإحسان للحياة من حولهم، وللإنسان في كل مواقعه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:413.
(2) تفسير الكشاف، ج:3، ص:167.
(3) تفسير الميزان، ج :16، ص:12.
تفسير القرآن