من الآية 15 الى الآية 19
الآيــات
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ* قَالَ رَب إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ* فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خائفا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الذي اسْتَنْصَرَهُ بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ* فلما أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً في الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (15ـ19).
* * *
معاني المفردات
{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}: أي دخل موسى المدينة والناس ذاهلون عنه.
{فَاسْتَغَاثَهُ}: الاستغاثة: الاستنصار، من الغوث بمعنى النصرة.
{فَوَكَزَهُ}: الوكز ـ على ما ذكره الراغب وغيره ـ: الطعن والدفع والضرب بجميع الكف[1].
{فَقَضَي}: القضاء هو الحكم، والقضاء عليه: كناية عن الفراغ من أمره بموته.
{ظَهِيراً}: معيناً.
{يَتَرَقَّبُ}: ينتظر.
{اسْتَنْصَرَهُ}: طلب نصره.
{يَسْتَصْرِخُهُ}: يطلب غوثه ومعونته.
{لَغَوِيٌّ}: الغويّ: الضالّ.
* * *
موسى يخوض صراع القوة فيقتل قبطيا
وبلغ موسى مبلغ الشباب وكان قويّ الجسد، في عضلاته قوّةٌ وفي إرادته صلابة، وجاءت التجربة الأولى التي دخل فيها الصراع الجسدي وتركت تأثيراً بالغاً في عمق شخصيته؛ {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} وهي مصر، في الظاهر، {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} وذلك عندما يستريح الناس ويدخلون إلى بيوتهم ليسكنوا إلى أنفسهم وأهاليهم، فتخلو الشوارع والأزقة من المارّة وذلك في وقت الظهيرة، أو وقت دخول الليل {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من الأقباط، وكانا يتقاتلان {فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} لينصره عليه {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وذلك بأن ضربه أو دفعه عنه بجمع الكف {فَقَضَي عَلَيْهِ} من دون أن يكون قاصداً لقتله، لأنّ همّه الكبير أن يدفعه عن الذي استغاثه، ويخلِّصه من بين يديه، كما هو ظاهر الاستغاثة التي توحي بوجود حالةٍ من الخطر، أو الألم الشديد. وفوجىء موسى بالنهاية القاسية الصعبة، وأدرك نتائجها السلبية على موقعه في البلد، وحريته في الحركة.
* * *
هذا من عمل الشيطان
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الذي يغري بين الناس بالعداوة والبغضاء، ويدفعهم إلى التقاتل الذي يؤدي إلى إزهاق الأرواح. وقد لا تكون الإشارة إلى قتل القبطي، بل إلى طبيعة العمل الذي دخل فيه ناصراً لا معتدياً، لأن الظاهر أن الإسرائيلي كان في موقع المعتدى عليه، على أساس الواقع الاجتماعي الذي يجعل بني إسرائيل في الطبقة السفلى، بينما يضع الأقباط في الطبقة العليا التي تضطهد مَنْ دونها، وتنظر إليها نظرة استعلاء وتتعامل معها بأساليب التعسف والاحتقار والإذلال... وهكذا كانت نظرة موسى إلى طبيعة العمل القتالي في الحالات الفردية بأنه من عمل الشيطان، بعيداً عما إذا كان الحق لهذا الفريق أو ذاك، لأنه على أيّ حال يمثل العمل الذي يؤدي إلى بعض المشاكل الخاصة أو العامة التي تربك السلامة العامة للمجتمع كله في تأثيرها على علاقات الناس ببعضهم البعض {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} لأن دوره هو إثارة المشاكل التي تؤدي بالناس إلى الدخول في المشاحنات، وتبعدهم عن الله الذي يريد للحياة أن تقوم على أساس المحبة والعدالة والسلام... وبذلك كان موقعه منهم هو موقع العداوة والإضلال، ما يفرض عليهم أن يواجهوه من هذا الموقع الذي يحتويهم بمشاكله وأضاليله.
* * *
موسى يطلب الغفران من الله
{قَالَ رَب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وعاد موسى إلى ربه، وقد شعر بخطورة ما قام به، ولكن هل كان يشعر بالذنب لقتله القبطي باعتبار أن ذلك يمثل جريمة دينيةً في مستوى الخطيئة التي يطلب فيها المغفرة من الله؟ أو أن المسألة هي أنه يشعر بالخطأ غير المقصود الذي كان لا يجب أن يؤدي إلى ما انتهى إليه، ما يجعله يعيش الألم الذاتي تجاه عملية القتل، لأنه لا يريد أن يبادر إلى القتل حتى لو كان المقتول عدوّاً له، إذا كان يستطيع تفادي ذلك؟؟
إننا نرجح الاحتمال الثاني، لأن موسى لم ينطلق في المعركة من موقعٍ عدوانيٍّ ذاتيٍّ، لأنه لا يجد أية ضرورة، أو أيّ مبرر، للدخول في معركةٍ مع الأقباط في وعيه العقلانيّ لطبيعة التوازن في القوى الذي كان لا يسمح له ولا لغيره أن يحلّ المشكلة القائمة في مجتمع بني إسرائيل، ولذا لم يكن من همّه أن يدخل في المعركة، بل كان كل همّه أن يدافع عن الإسرائيلي ويخلّصه من بين يدي القبطي الذي كان يريد أن يقتله، كما يبدو، وبهذا لم يكن في الأمر جريمة، بل كان الدخول شرعياً، ولم تكن النتيجة مقصودةً له، ولكنه كان يفضل أن لا يحدث ما حدث. وبذلك كان يرى في ذلك نوعاً من الذنب الأخلاقي أو الاجتماعي الذي يحسُّ بالعقدة الذاتية منه.
وعلى ضوء هذا، كان التعبير بأنه ظلمٌ للنفس تعبيراً عن الحالة الشعورية أكثر مما كان تعبيراً عن حالة المسؤولية، وربما كان تعبيراً عن القلق من النتائج الواقعية السلبية التي يمكن أن تترتب على ذلك في علاقاته الاجتماعية بمحيطه في ما يحمله من أخطار مستقبلية على شخصه بالذات. أمّا طلب المغفرة من الله، فقد يكون ناشئاً من الرغبة الروحية العميقة للإنسان المؤمن، أن يضع أعماله بين يدي الله حتى التي لا تمثل انحرافاً عن أوامره ونواهيه، بل تمثل نوعاً من الخطأ الأخلاقي المبرّر بطريقة ما، ليحصل على لمسة الرحمة الإلهية العابقة بالحنان والعطف، فيبلغ ـ من خلال عصمته له ـ الكمال في سلوكه، والتوازن في أخلاقه، ما يجعل من المغفرة لطفاً في توازن الشخصية لا عفواً عن ذنب. وهكذا كان اللطف الإِلهي بموسى(ع) في ما يعلمه الله من حاله في ظرفه الواقعي مما يحقق له الكثير من العذر في حساب المسؤولية، {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي تتحرك مغفرته من عمق رحمته لتفيض على الإنسان الراجع إليه بكل خير وإحسان.
* * *
ربّ لن أكون ظهيراً للمجرمين
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} وكان موسى في الأجواء الروحية التي يستلهم فيها روحانية الإيمان في ابتهاله لله، وفي انفتاحه على نعمه وألطافه، وفي إحساسه بالحاجة إلى عفوه ورحمته، وشعوره بأن الله قريب منه ومن حياته في آلامه وآماله.. يتعاظم في نفسه الحب لله، في ما يفيض عليه من النعم الوافرة لديه.
وهكذا أراد أن يعبّر عن شكره لله على ذلك كله بطريقةٍ عملية، فإذا كان الله قد أنعم عليه بالقوة، فلن يجعل القوّة في نصرة المجرمين الذين أجرموا في حق الله وحق عباده بالكفر والضلال والطغيان، وإذا كان قد أنعم عليه بالعلم فليجعله في خدمة المستضعفين لا في خدمة المستكبرين. فتوجه إلى الله بأنه يعاهده بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين بسبب ما أنعم الله عليه من كل نعمه الظاهرة والباطنة، وبذلك كان الإيحاء الروحي للنعمة أنها تمثل مسؤولية العبد أمام الله بأن يقابله بالشكر المتحرك في خط توجيه النعمة في طاعته، لا في معصيته، على الخط الذي عبر عنه الإمام علي(ع) بقوله: «أقلّ ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه»[2].
وكان لهذا الحدث تأثيرٌ مباشرٌ على نفسية موسى(ع) في حركته الأمنية في المجتمع، حذراً من الأجواء العدوانية الفرعونية ضدّه.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} الشرّ من خلال ثأر قوم القبطي لقتيلهم، وهنا كانت المفاجأة التي تنتظره لخوض تجربة جديدةٍ مماثلة للتجربة الماضية، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ} من قومه {يَسْتَصْرِخُهُ} لينتصر له في معركةٍ جديدةٍ مع شخصٍ آخر من الأقباط، في نداء استغاثةٍ مؤثّر... ولم يستجب موسى له، فقد استوعب التجربة السابقة، واحتوى نتائجها في فكره وشعوره، فقد لا يكون المستغيث دائماً مظلوماً، بل قد يكون صاحب مشاكل يتحرك في عملية الإثارة للنزاع والخلاف على أساس حدّة طبعه، أو رغبته في العدوان، فكيف يمكن له أن يستجيب له؟! وإذا كان موسى قد اندفع سابقاً للانتصار له، فليس ذلك من موقع الانتصار للقريب، بل من موقع الاعتقاد بأنه مظلومٌ من قِبَل القبطي انطلاقاً من دراسة طبيعة الأشياء في موازين الضعف والقوة. ولكن المسألة الآن هي أن صاحبه يدخل في خلافٍ جديدٍ، ما يوحي بأنه رجلٌ يتعمد المشاكسة مع الآخرين، وقد يكون انتصار موسى له أغراه في ذلك.
{قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فإنك لا تسلك طريق الرشد الذي يفرض على الإنسان أن يحلّ الأمور بالتي هي أحسن بعيداً عن العنف، أو أن يبتعد عن الدخول في القضايا التي تثير الخلاف من حوله، {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} ليدفعه عن صاحبه، لينهي المعركة بسلام أو ليواجه عدوانه بطريق القوّة، بعد أن امتنع عن الابتعاد عنه، {قَالَ يا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الاَْرْضِ} يواجه الناس بالقهر والبطش والقتل، ويحل المشاكل بالقوّة والعنف، {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} الذين يبادرون إلى حلّ الأمور بالتي هي أحسن، فيصلحون ما فسد ويجمعون القلوب على المحبة بدلاً من أن يجمعوها على العداوة والبغضاء.
وجاء في تفسير الميزان: «ذكر جلّ المفسرين أن ضمير "قَالَ" للإِسرائيلي الذي كان يستصرخه، وذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال: {قَالَ يا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ} الخ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فرجع إلى فرعون وأخبره الخبر، فائتمروا بموسى وعزموا على قتله. ويعقب صاحب الميزان على ذلك بقوله: «وما ذكروه في محله لشهادة السياق، بذلك فلا يعبأ بما قيل: إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي»[3].
وقد نلاحظ على ذلك أن السياق لا دلالة له على هذا التفسير، لأن ائتمار القوم به في ما أخبره به بعض الناس، لا يدلّ على ظهور أمر القتل من خلال القضية الثانية، بل قد يكون على أساس القضية الأولى التي ذاعت وشاعت بين الناس، وبعثت الخوف في نفس موسى، ولعل الذي يقتضيه الظهور هو أن يكون الكلام للقبطي عندما أراد موسى أن يبطش به، فكان كلامه لوناً من ألوان المحاولة بدفع موسى عنه بذلك بعد أن خاف أن يقتله، ولكن الوجه الذي ذكره محتمل، فقد ورد في بعض أحاديث الإمام الرضا(ع) المروية عنه في حديثه مع المأمون ما يؤكد ذلك.. في ما جاء في كتاب «عيون أخبار الرضا»، والله العالم.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:568.
(2) نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، قصار الحكم/330، ص:402.
(3) تفسير الميزان، ج:16، ص:12.
تفسير القرآن