من الآية 20 الى الآية 28
الآيــات
{وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يا مُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ* فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ* فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ* قَالَ إِني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَ ذَلِكَ بَيْني وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (20ـ28).
* * *
معاني المفردات
{أَقْصَى الْمَدِينَةِ}: آخرها.
{يَسْعَى}: يسرع في المشي.
{تِلْقَآءَ مَدْيَنَ}: حذاءها، وجهتها.
{سَوَآءَ السَّبِيلِ }: وسط الطريق.
{تَذُودَانِ}: تمنعان غنمهما من ورود الماء.
{مَا خَطْبُكُمَا}: ما شأنكما.
{حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ}: حتى ينصرف الرعاء، والرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد.
{اسْتِحْيَآءٍ}: شدّة الحياء.
{وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}: القصص: الحديث المقصوص.
{حِجَجٍ}: جمع حجة، وهي السنة.
* * *
إخبار موسى بائتمار القوم لقتله
وتعاظمت قصة قتل موسى للقبطي في أجواء آل فرعون، وبدأوا يعدون العدّة للثأر منه، وقد يكون الحديث بينهم على مستوى الهمس حتى لا يسمعه موسى فيهرب منهم {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} إلى موسى بشكل سريع مثير {قَالَ يا مُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ولا تزال المشاورات دائرةً بينهم ليصلوا إلى استكمال الخطة واتخاذ القرار الحاسم للتنفيذ، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} لتنجو بنفسك، لأن القوم يملكون القوّة التي يستطيعون بها الوصول إلى أهدافهم، لأنك إذا استطعت أن تقاوم شخصاً واحداً أو أكثر منهم، فإنك لا تستطيع مقاومة الجميع.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} في حذرٍ ويقظةٍ حتى لا ينتبه إليه أحد {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} الذين يتحركون من قاعدة الظلم في ما يسيطرون عليه من مقدرات الناس بالقهر والغلبة، وما يتحركون به من أساليب العدوان على مصير الناس وإرادتهم في الحرية والحياة، وما يريدون أن يواجهوا به موسى بالقتل على أمر لم يتعمده، بل صدر منه على سبيل الخطأ في مجال الدفاع عن شخص مستضعف.
وقد نلاحظ في هذا الدعاء وما تقدمه، وما يأتي بعده، أنّ موسى كان مشدوداً بإيمانه وبكل كيانه إلى الله، فهو يتوجه إليه في كل موقفٍ، وفي كل لحظةٍ من لحظات الشدّة، ليتحدث معه، وليثير ـ بين يديه ـ آلامه وهمومه وتطلعاته في الحياة، وعلاقته بالأحداث من حوله، ما يوحي بأنه كان على درجةٍ كبيرةٍ من الروحانية النابضة بالإيمان، بحيث لا يواجه مشكلةً إلاَّ ويكون الله هو المقصد فيها قبل كل الناس. وهذه هي ميزة الأنبياء في حياتهم قبل النبوة، في ملكاتهم الروحية التي تجعلهم في الموقع المميز الذي يؤهلهم لاصطفاء الله لهم لرسالاته.
وهكذا لاحظنا أن موسى كان في خوفه الغريزي ووحدته يستمد القوّة من الله في شعوره الإيمانيّ بحضوره معه، بكل قوته الإِلهية، ولهذا فإنه يطلب منه أن ينجيه من القوم الظالمين، الذين يملكون القوّة الغاشمة الكبيرة، بقدرته المطلقة التي لا حدَّ لها.
ولم يكن لموسى ـ كما يبدو ـ أيّ هدف معين يقصده، وقد تكون هذه السفرة هي أوّل سفر له في حياته، لأن هدفه هو أن يهرب من قوم فرعون.
* * *
موسى يتجه إلى مدين
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} ووصل إلى جهة هذه البلدة ورأى دلائل العمران، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ} وقد يكون وصوله إلى هذه البلدة بعد سفر طويل في الصحراء في مدى ثمانية أيام، كما يقال، منطلق فرحٍ روحيّ بأن الله لم يُسلمه للضياع، ولم يخذله في مسيرته، بل أوصله إلى شاطىء الأمان. فها هو الآن في بلد، لا سلطة لفرعون عليه، ولكنه كان يعيش في قلقٍ داخليٍّ، غريزيّ، لأنه لا يدري ما ينتظره في هذا الجو الجديد الذي لا يعرف فيه أحداً. فرجع إلى ربه، وبدأ يحدث نفسه عن اللحظة التي يهديه فيها الله إلى السبيل السويِّ الذي يبلغ به هدف الطمأنينة في حياته انطلاقاً من رعاية الله له في ماضيه، وعنايته به في حاضره.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أغنامهم وهم يتزاحمون ويتدافعون بحيث يتقدم القوي على الضعيف، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ} أي تحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم. ولفت ذلك نظر موسى(ع)، وعرف أنهما ضعيفتان عن الوصول إلى ما تريدان في هذا الزحام الشديد، وكان من أخلاقه أن ينتصر للإنسان الضعيف ويعينه ويأخذ له بحقه، فالتفت إليهما و {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي ما شأنكما {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ} ويخرجوا أغنامهم، فهذه هي العادة أن يتقدم الرجال النساء، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يستطيع أن يأتي إلى الماء ليسقي الأغنام ويتصدى للأمر بنفسه.
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ليستريح فيه من التعب، وليتخفف فيه من شدّة الحر، ولم يكن هناك من يتحدث إليه من قريب أو صديق، فانطلق يحدّث ربه، في مناجاة خاشعةٍ شاكرة {فَقَالَ رَبِّ إِني لِمَآ أَنزَلْتَ إِليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} في ما وهبتني من القوّة، وأعطيتني من الأمن، ومكنتني من الحصول على الغذاء.. فقد كنت في حاجةٍ شديدةٍ إلى ذلك، لأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلا بك، وحدك، لا شريك لك، فلك الشكر ولك الحمد... وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يختزنه في داخل نفسه من الشعور بالحاجة إلى الله في ما أعطاه وفي ما يمكن أن يعطيه في ابتهالٍ خاشعٍ يحرّك الإيمان في الذات ويطوّر العلاقة بالله.
{فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} في خفر العذارى، وحياء العفيفات {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقد أحسنت إلينا، وقمت بجهد كبير في رعايتك لنا في سقي الأغنام، وتوفير الماء لنا، وإبعادنا عن مزاحمة الرجال، وقد أخبرنا أبانا بذلك، وأراد أن يتعرف عليك ليشكرك وليجزيك الجزاء الجميل، وليعطيك أجرك على ذلك، وليكرمك كرامة المحسنين، فتعال إلينا، بكل تقدير وإعزاز، {فَلَمَّا جَآءَهُ} وارتاح إليه، ورأى في روحانيته صفاء الإيمان، وحنان الأبوّة، وروحيّة الرسالة، وانفتاح القلب الكبير، اطمأنّ إليه وشعر بأنه يقف على شاطىء الأمان عنده، فبدأ يتحدث عن حياته، وعن عمق المعاناة عنده، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} وعرف شعيب ـ وهذا هو اسم الرجل كما تتحدث به الروايات ـ أن هذا الشاب خائف من فرعون وقومه، وأنه يطلب المكان الذي يرتاح إليه، ويأمن فيه.
فـ{قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} فإنهم لن يصلوا إليك في هذا المكان، لأنهم لا يملكون أيّة سلطةٍ هنا. وربما شعرت إحدى الامرأتين بالحب يغزو قلبها لهذا الشاب القويّ الأمين الذي يمتلىء أخلاقاً وعفّةً وإيماناً، وخافت أن يفارقها، وربما شعر أبوها بذلك، وبأن هذا الشاب قد يريد الزواج كأيّ شاب في مثل عمره، وقد يحقق له ذلك طمأنينة وراحةً. وهكذا ابتدرت البنت أباها بهذا العرض الذي يخفف إحراج الجميع ويحل مشكلة الموقف مما قد يكون فكّر به موسى أنه لا يمكن أن يبقى ضيفاً إلى ما لا نهاية، وأن الخروج من هذا المكان قد يوقعه بالتّيه.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} فنحن بحاجةٍ إلى من يلي أمورنا ويدبّر أوضاعنا، وليس للمرأة أن تلي ذلك في مجتمعنا، مهما كانت قوّتها، لأن ذلك يخلق لها مشاكل كثيرةً في علاقاتها العامة والخاصة. وقد عرفنا في هذا الشاب القوّة والأمانة اللتين تؤهلانه أن يكون في مستوى المسؤولية في ما نحتاج إليه في ظروفنا هذه، فهو شاب قوي يقوم بالمهمة الصعبة في إدارة شؤوننا، وأمين يحفظ أمانة المال والكلمة والسرّ والعرض {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} الذي يتمناه كل أصحاب المهمّات والأعمال.
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} فهذا هو المهر الذي تقدّمه للزواج بمن تختارها منهما، فتقيم بيننا وتصلح أمورنا بقوّتك وأمانتك، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} كزيادة تمن بها علينا، من دون أن تكون شرطاً منا عليك، بل تكون على سبيل التبرّع، {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بما أعرضه عليك من ذلك، ولك حرية الاختيار في القبول وعدمه، وسأحقق لك كل ما ترغبه من الوفاء والحفظ والرعاية، انطلاقاً من روحية الإيمان في ذاتي، وأخلاقية الصلاح في عملي، و{سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين يوفون بالعهد ويرعون الذمام. واستجاب موسى لذلك، وفرح به، فهذا هو العرض الذي يمنحه الاستقرار في السكن، والأمن في الموقع، والراحة في الزواج، وذلك هو أقصى ما يتمناه في وضعه الحاضر.
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} عهدٌ وشرطٌ ثابتٌ، ألتزم به في ما أعطيك من عهد والتزام، {أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ثماني سنين أو عشر، {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} فليس لك أن تلزمني بالزيادة إذا كانت ظروفي تفرض عليَّ الاقتصار على الأقلّ، وليس لك أن تمنعني من تقديمها إذا كنت أريد التبرع بها، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } فهو الشاهد علينا، وهو الحاكم بيننا إذا ما اختلفنا، لأنه الشاهد على عباده الذين يلتزمون خط الإيمان، ويحسّون برقابة الله عليهم في أمورهم الذاتية، وفي التزاماتهم العقدية في علاقاتهم مع الناس.
تفسير القرآن