تفسير القرآن
القصص / الآية 56

سورة القصص

 

الآية 56

 

الآية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]

 

إنّك لا تهدي من أحببت

 

{إنّك لا تهدي من أحببت} لأنّ مسألة تتصّل بالفكر والقلب والشعور، وليس لك سلطة على ذلك، فأنت لا تملك منها إلاّ الكلمة التي تلقيها، والأسلوب الذي تحرّكه، والزجه الذي تطلقه بالبشر، والجوّ الذي تحيط به الناس الذين ترتد هدايتهم بالعطف والحنان. ولكن ذلك قد يصطدم بالكثير من النوازع الذاتية في ما تتحرّك به الشهوات وفي ما تثيره المطامع، وبالكثير من الضغوط الخارجيّة، في ما تعقده العلاقات العاطفيّة، في ارتباط الإنسان بأفراد المجتمع من أصدقاء وأقرباء، وأصحاب مصالح، وغير ذلك، ممّا يضغط على فكره وحياته، أو في ما تثيره الأجواء المتحرّكة من حوله، ممّا ينظره، او يسمعه، أو يلمسه أو يشمّه أو يذوقه، فيتغيّر تفكيره، وتتبدّل قناعاته من خلال ذلك بين لحظة وأخرى، لأنّ النفس الإنسانيّة لا تخضع لترتيب هندسيّ في انفعالاتها أو معتقداتها، لفقد تحصل لها القناعة بالفكرة من لمسة عاطفيّة، بما لا تحصل مثلها معادلة فكريّة.

ولهذا فقد كان أمر الهداية القلبيّة، بإفاضة الإيمان على القلب، راجعاً إلى الله الذي يهيمن على الإنسان بكلّ كيانه ويسيطر على أسباب الهداية في الداخل والخارج بكلّ قدرته {ولكن الله يهدي من يشاء} فلا تتعقّد من كُفر من كَفَرَ، وضلال من ضلّ، وانحراف من انحرف، ولا تحزن من ذلك، ولا تعتبر أنّ ذلك يعني فشلاً في المهمّة الموكلة إليك، فقد قمت بأداء رسالتك خير قيام، ولم يكن ما حدث منهم ناشئاً عن تقصير منك، بل عن عوامل أخرى في داخل التكوين الذاتي لشخصيّتهم، مما تنفعل به وتنطلق معه، مما يعلمه الله ولا تعلمه أنت، فهو القادر على الهداية {وهو أعلم بالمهتدين} من خلال ما يطّلع عليه من خفايا النفوس، وغوامض الأسباب.

أمّا الحديث عن كيفيّة هداية الله للمهتدين الذين يشاء هدايتهم، فهو من الأحاديث التي لم تأتِ الآية لتثيرها، لأنّ الاتجاه فيها، هو تأكيد العمق الذي تنطلق منه الهداية مما لا يملك الأنبياء والدعاة إلى الله إلاّ القليل منه.

وتبقى للآيات القرآنية الأخرى أن تتحدّث عن عنصر الاختيار الإنسانيّ الذي يلتقي باللطف الإلهيّ الذي يفيض لطفه على الإنسان الذي يريد الإيمان ويسعى إليه، ليكون الإيمان من الله، في ما هو اللطف منه والأسباب من تدبيره، وليكون من الإنسان من خلال الفكر والإرادة، والحركة النابعة من كيانه الذاتيّ.

وقد تحدّثت بعض الروايات عن سبب نزول هذه الآية، كما رواه في الدرّ المنثور عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب، أتاه النبيّ(ص)، فقال: يا عماه قل: أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن تغيّرني قريش يقولون: ما حمله عليها إلاّ جزعه من الموت لأقررت بها عليك، فأنزل الله عليه: {إنّك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء..}[1].

 

وقد نلاحظ على ذلك:

 

أولاً: لم يسند ذلك عن رسول الله، ولا عن أحدٍ من الصحابة الموثوقين الذين عاصروا القضيّة المذكورة، فلعلّه سمعها من شخص غير موثوق، هذا مع التحفّظ الذي نسجله على شخصيّة أبي هريرة، التي اختلف الرأي في توثيقها أو عدم توثيقها. ونحن نميل إلى الرأي السلبيّ، ونحتمل أن يكون الحديث من موضوعاته، لا سيّما أن يمسّ الإمام عليّ (ع)، مما قد يغلب الظنّ فيه، أنّه كان يتحرّك في دائرة الصراع بين عليّ وبين معاوية، كما قيل: إنّ معاوية أراد من بعض الرواة أن يضعوا أحاديث تنتقص من عليّ وأهل بيته.

ثانياً: إن الحديث يبعث على التساؤل، فكلام عليّ بن أبي طالب يدلّ على أنّ مسألة الإيمان بالوحدانيّة كانت واردة عنده، من حيث المبدأ، والحديث يوحي في أن المانع منه خوف التعيير، فكيف يخاف من ذلك، ولا يخاف من عذاب الله، في الوقت الذي يعرف أنّه صائر إليه، وأن التعيير لا يضرّه شيئاً؟

ثالثاً: إن دراستنا لتاريخ أبي طالب في ملامح شخصيّته القويّة التي كان الآخرون يخافونها ويحترمونها، تجعلنا نقتنع بأنّه ليس بهذا المستوى من ضعف الشخصيّة التي تجعله يترك إيمانه الذي يمثّل عمق مصيره، كما يمثّل عمق عاطفته تجاه النبيّ وموقع شرفه العائليّ ـ لو كان للقضيّة بعدٌ ذاتيّ ـ لمجرّد الخوف من تعيير قريش إيّاه بعد الموت.

رابعاً: إن دراسة علاقته بحركة الإسلام في ساحة الصراع بين النبيّ وبين قريش، تؤكّد لنا أنّه كان مسلماً بدرجة عالية، من خلال ما نستكشفه من كلامه وطريقته في إدارة المسألة.

خامساً: إن أجزاء الآية التي سبقت هذه الآية، تدلّ على أنّ القضيّة المثارة هي قضيّة إيمان قومه الذين كانوا يواجهونه بالأساليب المتنوعة من خلال الكفر، بحيث تكون جزءاً من هذا الفصل من السورة، مما تريد تأكيده من حدود الدور النبوي في مسألة الإيمان، بعيداً عما يحبّه وعما لا يحبّه في الساحة، والله العالم.

*********

 

 

 


[1]- الدر المنثور، ج6، ص428.