الآية 76 الى الآية 78
الآيــات
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَْرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (76ـ78).
* * *
معاني المفردات
{فَبَغَى}: طلب العتوّ بغير حق.
{مَفَاتِحَهُ}: والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح، ومعناهما واحد، وهو عبارة عما يفتح به الأغلاق.
{لَتَنُوء}: تثقل، وناء بحمله ينوء نوءاً: إذا نهض به مع ثقله عليه.
{بِالْعُصْبَةِ}: الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. أو حسب المجمع: الملتفّ بعضها ببعض[1].
* * *
قصة قارون
وهذه شخصيةٌ من شخصيات التاريخ القرآني، تتميز بالغرور الذاتي، الناشىء من الإمكانات المالية الهائلة، التي تمكنها من الارتفاع الطبقي على أفراد مجتمعها، والحصول على الامتيازات الاجتماعية من خلال ذلك، والتحرك ـ معها ـ على أساس الزهو الاستعراضي الذي يُراد منه الإيحاء بالعظمة الكبيرة التي يصغر أمامها الآخرون من الفئات الاجتماعية الفقيرة، بحيث تسقط معنوياتهم، وتُسحق إرادتهم، وتُزرع في داخلهم القيم المادية التي ترى في المال القيمة الكبرى التي لا ترقى إليها قيمةٌ في الحياة، ويؤدي ذلك إلى سيطرة أصحاب الأموال على المجتمع.
وقد جاء هذا الفصل ليصوّر للناس بعض ملامح هذه الشخصية المالية المغرورة ومفاهيمها في الحياة، ونظرة الناس إليها، والخط القرآني الإيماني في وظيفة المال ودوره في حياة الإنسان المؤمن.
* * *
قارون الباغي على قومه
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} الذين حمل موسى رسالة تحريرهم من سيطرة فرعون، ليتحرروا من الخضوع للنهج الفرعوني في العقيدة والسلوك، لأن حرية الإنسان في أفكاره تنطلق من حرية مواقعه في حركة السلطة غالباً. وكان من المفروض أن يكون قارون مخلصاً لحرية قومه ولحركة الإيمان الجديدة في حياتهم، ولكنه لم يكن بالمستوى الأخلاقي الذي يحميه من غرور المال وزهوه، فترفّع بنفسه عن قومه {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وتكبّر، وحاول أن يربك حياتهم، ويفسد قيمهم، مستغلاً قوّته المالية التي تتيح له الحصول على مواقع القوّة والنفوذ في المجتمع. وقد كان حجم ماله كبيراً جداً، ما سهّل له الحصول على ما يريد من ذلك، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} التي يخزن فيها أمواله، {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوء بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} فإذا كانت مفاتيح بيوت المال تثقل الجماعة الملتف بعضها ببعض، بحيث تزيد على العشرة، فكيف يكون حجم ما يملكه من مال في ما يمثله ذلك من كثرة هذه البيوت؟!
قوم قارون يقدمون له النصيحة
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والظاهر أن المراد بالفرح، ليس الحالة النفسية الهادئة من السرور الطبيعي الذي يحصل للإنسان عند أية حالةٍ من حالات الانسجام مع ما حوله أو مع من حوله، لأن هذا ليس أمراً سيئاً، من خلال القيمة الإنسانية للمشاعر الخاصة، بل المراد به البطر الذي يمثل شدّة الفرح في ما يصل به الشعور إلى مستوى الإفراط في الانفعال والتعلق بمتاع الحياة الدنيا، بحيث يتحوّل إلى هزّةٍ ذاتية في تعبيراتها الكلامية والسلوكية وفي انتفاخ الشخصية بشكل غير طبيعيّ. وهذا المعنى هو ما نستوحيه من قوله تعالى في آية أخرى: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] فأن الظاهر إرادة الحالة الانفعالية من السرور الداخلي الذي يتحول إلى أجواء الخيلاء والفخر.
وهذا ما يبغضه الله في الإنسان، الذي يريد له أن يكون متوازناً في انفعالاته، متواضعاً في علاقاته، هادئاً في تأثره بالأشياء المحيطة به ممّا يُفرح أو يحزن، فإذا كان متكبراً مختالاً متعالياً على الناس، كان عبثاً على الناس من حوله بما يثيره من انفعالات مضادّة لحريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم... وهكذا كان يريده العقلاء من قومه الذين عرفوا القيم من قاعدة الإيمان، ولم يعرفوها من منطق الحجم المادي للأشياء، فقد عايشوه في بداية أمره وأرادوه أن يبقى معهم ـ كما كان ـ إنساناً ينفعل بالإيمان، أكثر مما ينفعل بالمال.
* * *
الفرق بين العمل الدنيوي والأخروي في الإسلام؟
{وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ} فهي الغاية لكل ما وهبه الله للإنسان في الدنيا، فليس المقياس في أخروية العمل طبيعته الذاتية، بل هو عنوانه وعمقه وهدفه، فإن كان رضى الله هو العنوان الذي يأخذ منه العمل عنوانه وكانت الدار الآخرة في قيمها الروحية هي الهدف منه، بحيث كان الأساس هو الحصول على الموقع المميز والدرجة الرفيعة هناك مما يلتقي مع القيم الكبيرة المعنوية التي تحقق مصلحة الإنسان في الحياة؛ إذا كانت القضية هي هذه، فإن العمل يكون أخروياً حتى لو كانت صورته مادية دنيويّة.
أمّا إذا كان الأساس في العمل هو الاستغراق في خصوصيات الدنيا، في شهواتها ولذائذها، وأنانيتها وامتيازاتها، مما يتسابق الناس إليه، كقيم الذات الضيقة وحاجاتها المحدودة مما لا ينفذ إلى أبعد من حدود الدنيا، ولا يحمل في داخله همّاً أخروياً وبُعداً روحياً، فهذا هو العمل الدنيوي حتى لو كانت صورته روحيةً أخروية، كبعض أعمال الخير التي يراد منها اكتساب عرض زائل لا الحصول على رضى الله، وكما في الصلاة المتحركة في أجواء الرياء.
وعلى ضوء هذا، نعرف أن المسألة لا تتغير في صورة العمل وارتباطه بالحياة من خلال مقياس العمل الدنيوي والأخروي، بل في غاية العمل وروحيته، عبر الخط الفاصل بين ما يبقى أثره في الدنيا، وبين ما تتحرك إيجابياته في الآخرة، وهكذا أراد قوم قارون منه، أن يحرّك ماله في اتجاه الحصول على رضى الله الذي يمنحه معنى الخير ويؤدي به إلى الحصول على خير الآخرة، ولم يريدوا منه أن يترك ما آتاه الله من مال، أو يخرج منه، لأن ذلك ليس هو المطلوب.
{وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فمن حقك أن تستعمل مالك في حاجاتك الخاصة وشهواتك ولذاتك الذاتية، فليس معنى ابتغاء الدار الآخرة في مالك أن تنسى حقوق نفسك، كإنسان يريد أن يعيش في الدنيا ويستمتع بطيباتها، لأن طبيعة مادية جسدك أن تحصل له على ما يحفظ له حياته ويحقّق له راحته. وبذلك يقف التوجيه الإسلامي في خط التوازن في حركة الممارسة الاقتصادية، بين الجانب المادي الذي يمثل حاجة الإنسان كجسدٍ، للاكتفاء الذاتي من متع الحياة، وبين الجانب الروحي الذي يمثل حاجة الإنسان كروح ترغب في الحصول على الاستقرار في الدار الآخرة ونعيمها في رضى الله. وقيل: إن «معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا ـ وقد أقبلت عليك ـ شيءٌ قليل مما أُوتيت، وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلاً، والباقي فضل ستتركه لغيرك، فخذ منها ما يكفيك»[2]. ولكن هذا ـ مع وجود بعض ملامح التفسير السابق فيه ـ بعيدٌ عن مساق الآية، لأنها لم تتحدث عن قيمة نصيبه، بل عن طبيعة ما يرخصه الله له من نصيبه في الدنيا.
وقيل ـ كما في تفسير الميزان ـ «أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسي، واعمل فيه لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته، فهو الذي يبقى له»[3]. وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون راجعاً إلى ما ذكرناه.
{وَأَحْسِن كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فقد أعطاك الله من نعمه الكثير، من دون عوض إحساناً إليك، فأعط الناس من ذلك، على أساس الإحسان، تأدّباً بأخلاق الله وشكر النعمة.
* * *
لا تبغ الفساد في الأرض
{وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ} ولا تستخدم مالك وما آتاك الله من جاه وغيره في إفساد البلاد والعباد، وتوجيه الحياة في حركتها في النموّ والامتداد نحو الفساد، لتكون أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمةً على القوانين الفاسدة، والعلاقات الجائرة والأوضاع المنحرفة، مما اعتادته القوى الكافرة والمستكبرة من استغلال مواقع نفوذها المالي والسياسي والاجتماعي، في إفساد الواقع، وتهديم قوى الخير والصلاح، وإثارتها الفتن والحروب المدمّرة، والاهتزاز الروحي في تحريك السلبيات في حياة الناس {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لأن الله أقام الكون على الحق والتوازن والخير والصلاح في حركة التكوين والتشريع، ويريد لخلقه أن يتمثلوا ذلك في وجودهم، وبناء شخصياتهم وفي حركة حياتهم، فلا يحب الذين يثيرون الفساد في الكون كله.
* * *
إنما أوتيته على علم عندي
{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} فلا دخل لله في ذلك، فقد خلقني الله من عدم ـ وهذه حقيقة أؤمن بها ـ ولكن المال الذي أملكه كان نتيجة جهدي الذاتي، وفكري المتحرك في اتجاه مواجهة الأوضاع الاقتصادية في الحياة بالتخطيط الدقيق، والحركة الزكيّة الدائمة، والوسائل المتنوعة والوعي الكبير، وهذه هي النتيجة الطبيعية للعلم الذي أملكه، والإرادة التي أحرّكها.
وهذا هو منطق المستكبرين الغافلين الذين يرتبطون بالأمور بشكل مباشر من خلال الحس السطحي، ولا ينفذون إلى أعماقها في جذورها الحقيقية الممتدة في عمق الأسباب الكامنة في واقع الأشياء. وهذا هو الذي حدثنا الله عنه في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّما أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ* أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر:49ـ52] وفي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الاَْرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّناتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:82 ـ 83 ].
وهكذا كان هؤلاء ينطلقون في تفسيرهم وتقييمهم لما حصلوا عليه من نتائج ومواقع وأموال كبيرة، من طبيعة نبوغهم العلمي على أساس العلاقة بين الأشياء وأسبابهما المادية، ولا يحاولون الرجوع إلى طبيعة هذه الأسباب، وعلاقتها بالنظام الكوني الذي أودع الله في داخله قوانينه الطبيعية، وسننه الاجتماعية، ووسائله المادية، مما لم يكن له أيّة إمكانية في الوجود بعيداً عن إرادة الله وقدرته في حركة الحياة والإنسان، الأمر الذي يجعل العلم من مفردات النظام العام للوجود، وليس هو السبب الوحيد من جهة، كما أنه ليس شأن الإنسان باستقلاله من جهة أخرى، لأنه هبة العقل الذي خلقه الله، وحركة الحواس التي أبدعها الله.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} فلو فكر بعلمه، لرأى أن الله وحده هو الذي يعطي بإرادته في حركة قانون الحياة، وهو الذي يمنع ويأخذ، فهو القادر على السيطرة على دورة المال في الأرض وفي ملكية الإنسان له، وهو وحده الذي يملك أمر الإنسان كله في وجوده وهلاكه، ولا يملك أيّ شخصٍ الخلاص من ذلك مهما كان قوّياً في جسده وفي مركزه، أو كان غنياً في ماله الذي اجتمع له. وليدرس تاريخ الذين سبقوه من أصحاب القوّة والمال والنفوذ، فقد كانوا أشد منه قوّةً وأكثر جمعاً، فقد استكبروا كما استكبر، واغترّوا بعلمهم كما اغترّ، ولكن الله أهلكهم بذنوبهم وأخذهم بقوّته.
{وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لأن أمرهم واضح، وجريمتهم محقّقة، فلا مجال فيها للأخذ والرد والسؤال والجواب، لأن المسألة متصلة بالله الذي يعلم كل شيء، ويهيمن على كل شيء، ولهذا فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر من دون حاجة إلى أيّ سؤال أو أيّ تحقيقٍ، لأن ذلك كله من أجل معرفة الجريمة، فإذا كانت واضحةً، فلا مجال للبحث عن وسائل الإثبات.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، م:4، ص:342.
(2) تفسير الميزان، ج:16، ص:77.
(3) (م.س)، ج:16، ص:77.
تفسير القرآن