من الآية 65 الى الآية 68
الآيــات
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ* لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ* أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (65ـ68).
* * *
معاني المفردات
{وَيُتَخَطَّفُ}: التّخطف كالخطف: استلاب الشيء بسرعة واختلاسه.
* * *
أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون
إن مشكلة هؤلاء الكافرين، الذين يعلنون الكفر وينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، هي أنهم يناقضون أنفسهم في بعض الحالات التي يشتد عليهم فيها الضغط في دائرة الخطر على الحياة، فيلجأون إلى الله، لأنهم لا يرون أمامهم سبيلاً للنجاة إلا اللجوء إليه.
* * *
اللجوء إلى الله عند انقطاع السبل
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ} وثارت بهم الرياح من كل الاتجاهات، وأحاط بهم الموج من كل مكان، ورأوا الموت بأعينهم، واهتزت بهم الفلك حتى كادت أن تنقلب بهم لتغرقهم في أعماق البحر {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أن ينقذهم من ذلك، ويسير بهم إلى الشاطىء الأمين، ليرجعوا إليه ويعبدوه بإخلاص ويتجهوا بكل حياتهم إلى دينه، ويتركوا كل ما سواه. ولكنها مجرد حالةٍ طارئةٍ، وانفعال سريع في حالة الخطر {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} واستراحوا إلى السلامة، وعاشوا الأمل الكبير في امتداد الحياة بهم، تركوا كل عهودهم ومواثيقهم واستعدادهم، في ما التزموا به على أنفسهم أمام الله، ونسوا ذلك كله {إِذَا هُمْ يُشْرِكُون} بالله، فيما تفرضه عليهم أطماعهم، فيرجعون إلى أوثانهم وأصنامهم وإلى آلهتهم التي يعبدونها من دون الله.
* * *
لا مفرّ للكافرين من العذاب
كيف يكفر هؤلاء؟ ماذا ينتظرون؟ هل يفكرون بالامتداد الخالد للحياة في أجسادهم؟ هل ينتظرون أن تبقى لهم هذه الشهوات في أوضاعهم؟
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} ما شاؤوا أن يكفروا، وليمتدوا في عبادة غير الله {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} بكل أطايب الحياة وشهواتها ولذاتها، {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} عندما يشاهدون عذاب الله في نار جهنم، عندما تنتهي الحياة، ويواجهون المسؤولية أمام الله. ثم كيف ينكر هؤلاء نعمة الله عليهم في ما وهبهم من الأمن المستقر في بلدهم؟!
* * *
الحرم الآمـن
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وهو مكة وما حولها، فقد جعله الله حرماً آمناً يأوي إليه الناس من كل مكان، فيتعبدون ويتّجرون ويجتمعون من دون أن يخاف أحد على نفسه، كما يشعر أهله بالحفظ والرعاية والخير الذي يأتيهم من ذلك {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} في ما كان يعيشه العرب من حالة استلابٍ وخطف في أوضاع الغزو التي يغير فيها بعضهم على بعض بالقتل والسلب والنهب والسبي، بحيث لا يشعر أحد بالأمن في مكانه. فكيف يغفلون عن هذه النعمة العظيمة التي كانت هبةً من الله، استجابةً لدعاء نبيه إبراهيم(ع)، ولا يشكرونها بالانفتاح على رسالته الله التي جاء بها محمد(ص) ليخرجهم من الظلمات إلى النور؟!
* * *
الافتراء على الله أشد الظلم
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} في ما اتخذوه لأنفسهم من نهج الشرك في حياتهم العامة {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} في ما ابتعدوا به عن الأرض وعن الإيمان برسالته. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن ينسب إلى الله شريكاً لا حقيقة له ولا واقع لموقعه، فيعبده من دون الله. إن ذلك هو الظلم الأكبر، لأنه يشتمل على ظلم الله بالتجاوز عن حقه في وحدانية العبادة، وعلى ظلم الحياة وظلم الإنسانية عندما يفرض عليها السير في خط لا يلتقي بالخير والصفاء والروحية الفياضة بالطمأنينة والاستقرار، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ} برسالة الله في كتابه الذي يحمله الرسول إلى الناس نوراً وهدى ورحمةً للمؤمنين.
ما هو مصير هؤلاء إزاء ذلك كله؟ هل يملكون حجةً على ما هم عليه في هذا التمرد على الله بالشرك والجحود، وفي هذا التكذيب برسالته، وفي النهج المنحرف عنه في الفكر والعاطفة والحياة؟ وماذا ينتظرون من الله إلا العذاب؟ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} برسالة الله وبنعمته، وهل يستحقون غير ذلك؟!
تفسير القرآن