تفسير القرآن
لقمان / المقدمة

 المقدمة
 

سورة لقمان
مكية وهي أربع وثلاثون آية

في آفاق سورة لقمان

لقد أطلق اسم لقمان على هذه السورة، لأنها تضمنت بعض الحديث عن وصاياه لولده، مما يريد الله للناس أن يتعرفوا عليه من الحكمة التي تتصل بالعقيدة وبالسلوك الإنساني في الحياة، على مستوى الممارسة الذاتية وعلى مستوى العلاقات العامة والخاصة.

* * *

شخصية لقمان

أمّا شخصية لقمان، فلا نملك مصادر تاريخية للتعرف على ملامحها، وعلى المرحلة الزمنية التي عاشها هذا الرجل الذي اقترن اسمه بالحكمة عندما يتحدث الناس عن لقمان الحكيم.

ولكن هناك ـ إلى جانب الملامح الفكرية التي جاءت في القرآن ـ أحاديث مأثورة في المصادر الإسلامية الدينية قد تعرض لبعض ملامحه وخصوصياته الذاتية.

وقد جاء في القرآن أنَّ الله آتاه الحكمة، في ما توحي به من العقل والفطنة، والوعي الدقيق لحقائق الأمور وخلفياتها ودقائقها، بحيث يتحول الإنسان المتّصف بها إلى إنسانٍ منفتح يملك وضوح الرؤية للمواقف، فلا ينحرف عن خط الاستقامة فيها وسداد الرأي في القضايا، ولا يخطىء في الحكم عليها إلا بشكل بسيط. وقد رأيناه كيف يوصي ولده بالانفتاح على الله وعلى الحياة من حوله من موقع الثقة بالله في تحريكها نحو الخير والاتزان والمسؤولية والصبر على مشاكل الحياة، باعتبار ذلك مظهر عزمٍ وقوّة، من أجل أن يصوغ شخصيته صياغةً متوازنةً من الداخل، وفي علاقته بالناس وبالحياة من حوله، ممّا يثير في تقديرنا وتصورنا له، كيف يكون الأب المسؤول واعياً للفكر المتأمّل والتجربة الواعية، من أجل إغناء شخصيته بالحكمة، وتوجيه ولده نحو الاستقامة في الفكر والعمل.

وقد جاء في تفسير القمي بإسناده عن حمّاد قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل، فقال: «أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسبٍ ولا مالٍ ولا أهلٍ ولا بسطٍ في جسمٍ ولا جمال، ولكنه كان رجلاً قويّاً في أمر الله، متورّعاً في الله، ساكتاً مستكيناً، عميق النظر، طويل الفكر، حديد النظر، مستغنٍ بالعبر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحدٌ من الناس على بولٍ ولا غائطٍ ولا اغتسالٍ، لشدّة تستُّره وعمق نظره وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شيءٍ قط مخافة الإثم، ولم يغضب قط، ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بشيءٍ أتاه من أمر الدنيا، ولا حزن منها على شيء قط، وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير، وقدّم أكثرهم إفراطاً، فما بكى على موت أحدٍ منهم.

ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلاَّ أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى تحابّا، ولم يسمع قولاً قطّ من أحد استحسنه إلاَّ سأل عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان، يداوي قلبه بالفكر ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلا في ما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة»[1].

وقد جاء في بعض هذه الأحاديث ذكر بعض الوصايا المتفرقة التي تخضع للأجواء العامة في شخصيته، مما لا مجال للتفصيل فيها في هذا التفسير.

وقد نستوحي من حديث الله في القرآن عن هذا الرجل الحكيم، أن الله يعطي الدور الكبير من الأهمية للحكمة الإنسانية المنطلقة من الفكر والتجربة كما يعطي الدور للنبوّات المنطلقة في حركة وحيه، لأن الله يريد للإنسان أن يعيش تجربته في حركة فكره وعمله، كما يريده أن يستلهم وحيه في عقيدته وسلوكه، ليكون للوحي الخط العام في حياة الإنسان، وللمعاناة الذاتية الخطوط التفصيلية في خدمة الخط العام.

* * *

أغراض السورة

إن التدقيق في آيات هذه السورة يوحي بأن العقيدة في تصوراتها ومواقعها ومنطلقاتها وآفاقها في الكون كله، هي ما يمثل العنوان الكبير للسورة. فقد تحدثت عن توحيد الخالق في مواجهة فكر الشرك، وعن عبادته في مواجهة عبادة الأصنام، وعن شكره، وعن اليقين بالآخرة وما فيها من حركة الحساب في خط الثواب والعقاب، وفي الانسجام العملي في خط الشريعة في ما أنزله الله من وحيٍ يحدّد فيه للإنسان خطه السلوكي بعيداً عن كل المألوفات والمعتقدات، وذلك في أجواء الأساليب الفكرية والعاطفية التي تخاطب العقل والوجدان والشعور، في جولةٍ واسعة في رحاب الكون، وفي أعماق النفس الإنسانية، في انفعال الذات بما حولها ومن حولها من قضايا الحياة والناس.