تفسير القرآن
لقمان / من الآية 12 إلى الآية 15

 من الآية 12 الى الآية 15
 

الآيــات

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنيٌّ حَمِيدٌ* وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ* وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (12ـ15).

* * *

معاني المفردات

{وَهْنٍ}: الوهن: الضّعف.

{وَفِصَالُهُ}: فطامه وترك إرضاعه.

{أَنَابَ}: رجع.

* * *

حكمة لقمان وبعض وصاياه

ونقف أمام صورة لقمان الإنسان، المنفتح على الفكر العملي الذي يبلغ بالإنسان إلى التوازن في حياته بين ما هو الفكر وما هو الواجب، في ما يأخذ به، أو يدعه، لتستقيم له الحياة في الخط المستقيم.

* * *

إتيـان لقمان الحكمة

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} في فكره وحديثه وحركته في الحياة، وذلك من خلال ما حرّك به بصره نحو كل الأشياء التي تحيط به، وتبدو له، وما أصغى إليه بسمعه من كل ما يتحدث به الآخرون، وما حرّك به عقله في إدارة ذلك كله، في مواقع التأمّل والمقارنة والمحاكمة والاستنتاج، ليعرف مصادر الأمور ومواردها وبدايات القضايا ونهاياتها، وكيف تنفصل الأشياء وكيف تتصل، وهكذا كان يواجه الحياة، ويتحرك فيها مع الآخرين، ليكون الإنسان الذي ينتج الفكرة من خلال حركة عقله وتجربته، ثم يجلس مع الناس ليفتح عقولهم عليها، وليوجّه مشاعرهم إليها.

وبدأ يفكر بالله، وبنعمه التي يغدقها على الناس، فيستمر بها وجودهم، وترتاح معها أوضاعهم، وتطمئن بها نفوسهم. ثم يتابع التفكير في الموضوع، كيف يواجه الناس نعم الله، وكيف يكون موقفهم أمامه، هل يمرّون بها بروح اللاّمبالاة، من موقع الألفة التي لا تثير في نفوسهم شيئاً، مهما كان الشيء المألوف عظيماً، أو يتوقفون أمامها بروح الجحود الذي يتنكر لكل نعمةٍ ولكل إحسانٍ، من موقع الشعور المعقّد الذي يثير العقدة ضد المنعم من قِبَل المنعَم عليه، أو ينطلقون في آفاق الشكر المنفتح على الخير كله ليتفاعلوا مع الخير في عقولهم وأرواحهم وقلوبهم وكل حياتهم، فيشعرون بالامتنان وعرفان الجميل، لكل لمسة حنانٍ، وفيض رحمةٍ، والتفاتة نعمةٍ، ونظرة لطفٍ، وخفقة حياةٍ، ونبضة روحٍ، ليتحوّل ذلك إلى شكرٍ في الفكرة والكلمة والحركة، وفي الحياة لله الذي خلقهم ورزقهم وشفاهم ونصرهم وأنقذهم من كل سوء.

وهكذا اكتشف لقمان الشكر لله، كقيمةٍ روحيةٍ من أسمى القيم، ليقدمها لكل من يعي ويسمع ويتحرك في الاتجاه السليم.

* * *

الشكر لله

{أَنِ اشْكُرْ للَّهِ} فهو وحده الذي يستحق الشكر من خلال وحدانيته في إغداق النعمة على الإنسان الذي لا مصدر لديه لأية نعمةٍ من النعم التي تحتويها حياته إلا الله، وليس دور القوى الأخرى المتنوعة الموجودة في الكون إلا دور الأدوات والأسباب المباشرة، التي تستمد سببيتها من مسبّب الأسباب، وهو الله.

{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} من دون أن يكون لله نفعٌ في هذا الشكر أو حاجةٌ إليه، لاستغنائه عن كل خلقه في كل شيء، وليس لأحدٍ منهم أن يضيف إلى ملكه شيئاً، لأنه لا يملك إلا ما ملكه الله، ولا يتحرك بشيءٍ إلا من خلال قدرتة.

أمَّا رجوع الشكر لنفس الشاكر، فقد يكون من جهتين:

الأولى: أن الشكر يمثل حركة الإنسانية في داخل الذات في انفعالها بالنعم الإِلهيّة، ما يجعلها تنفتح على الله في وعيها الروحي لإِحسانه وفضله ورحمته، وفي ارتفاعها في مدارج السموّ لتصل إلى الموقع الأسمى الذي تصعد من خلاله إلى الوقوف بين يديه في صفاء الشعور، وابتهال الكلمة، وعبودية الذات، وخشوع الموقف، مما يحقق الصلة بالله أكثر، ويثير الشعور بالسعادة الروحية بشكل أعمق، ويدفع بالمعرفة بالله في الفكر والحسّ والوجدان إلى مجال أوسع.

الثانية: أن الشاكر لله ينال الزيادة في نعم الله عليه في الدنيا في ما وعد الله به عباده من ذلك، مما تمثله الآية {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، كما ينال الثواب والرحمة واللطف من ربه في الآخرة.

{وَمَن كَفَرَ} فلم يشكر النعمة بل جحدها وأهملها وتمرّد على كل إيحاءاتها، فلن يضر الله شيئاً {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فهو الغني عن كل عباده، وهو الحميد بكل صفات الجلال والجمال في ذاته.

* * *

لقمان يعظ ابنه

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ} وهذه هي الصورة الإنسانية الحميمة الرائعة، التي تمثل النموذج الأمثل للمسؤولية التي يتحملها الجيل القديم بالنسبة إلى الجيل الجديد، في علاقة الآباء بالأبناء، فقد سبقوهم إلى التجربة في ما توحي به من المعرفة، وإلى التأمّل في ما يوحي به من العلم، ولذلك فقد كان من الطبيعيّ للجوّ العاطفي الحميم أن يعمدوا إلى اختصار المرحلة التي يحتاج الأبناء إلى أن يقطعوها في وقت طويل، وإلى تقديم التجربة وتحريك المعرفة في حياتهم، ليبدأوا بدايةً طيبةً من الموقع الثابت الصلب، القائم على بدايات الآخرين، لئلا يحتاجوا إلى أن يرجعوا إلى نقطة البداية في ذلك كله.

وهذا هو الذي جعل لقمان يجلس إلى ولده، ليكون الدرس الأول الذي يقدمه له هو توحيد الله، الذي عبّر عنه برفض الشرك، لتتوحد كل آفاق الحياة لديه في أفق واحد، ولتلتقي كل مواقعها في موقعٍ واحدٍ، ولتتحرك كل اتجاهاتها في اتجاهٍ واحد، ليبقى الإنسان مع الله وحده، وليدخل إلى الآخرين من الباب الذي ينفتح على الله، لأنه وحده الحقيقة، وكل ما عداه فهو ظلٌّ لوجوده.

وهناك نقطة أخرى، وهي ربط مسألة الشرك بالله بالظلم، في ما عبرت عنه الآية الكريمة: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لأنه ظلمٌ مضاعف متعددٌ، فهو ظلمٌ لله من موقع التعدي على حق الله في توحيده في العقيدة وفي العبادة، وكل تجاوزٍ عن الحق ظلم، من دون فرقٍ بين انطلاقه من موقع القوّة أمام موقع الضعف، وبين انطلاقه من موقع الضعف الذي لا يراعي حقوق القوي في خلقه وفي نعمه.

وهو ظلمٌ للنفس، لأنه يورّط النفس في عذاب الله، كما يوقعها في الكثير من مواقع سخطه، من خلال الارتباط بغيره، والتعلق بالأهواء، ونسيان الله تعالى ومنهاجه الذي يكفل للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة.

* * *

توصية الإنسان بوالديه

{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} ليشكرهما كما يشكر الله، في الكلمة واللفتة والسلوك، وهذا من الحكمة التي ألهمها الله لقمان، والظاهر أنها من كلام الله لا من كلامه، استكمالاً لأجواء الشكر التي لا بد للإنسان من أن يعيشها في حياته مع الناس الذين يجب أن يشكرهم، وخص الأم بالذكر لأنها الأكثر جهداً وتضحية والأشدّ خطورةً في رعاية الولد ووجوده، من الأب، في ما يمثله الارتباط العضوي بين وجوده ووجودها في الحمل والولادة والإرضاع والتربية.

{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} فهي تنتقل في حملها له من ضعفٍ يستولي على كل جسدها، إلى ضعفٍ يكاد يسقطها في ما تنوء به من ثقلٍ وما تتحمله من آلام، وفي ما تعانيه من الخطر على الحياة عند الوضع.

{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وهي المدة التي تقوم فيها الأم بإرضاعه، ليكون بعد ذلك الفصال، وهو الفطام الذي يبدأ فيه الطفل بالغذاء الطبيعي بشكلٍ عاديّ، ثم ينمو ويتكامل في عقله وجسده، لتبدأ المسؤولية العملية في حياته في ما حوله وفيمن حوله، ليكون شكر الله هو البداية في ذلك، حيث يحس بوجوده في كل عناصره التي تكفل له الاستمرار من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى، فيبادر إلى الارتباط بالله من خلال هذا الإحساس العميق بالصلة التي تربطه به وتشدّه إليه. وإذا استقام له هذا الشكر الذي هو علامة الانفتاح عليه، استمع إليه في وحيه {أَنِ اشْكُرْ لِي} لأني السرّ الأعمق في إرادة وجودك {وَلِوالِدَيْكَ} اللذين هما السبب المباشر والأداة المتحركة في فعليّة هذا الوجود، ثم انطلق في الحياة من موقع الإيمان بأنك لن تخلد في الدنيا، فإن لك عمراً محدوداً لا بد من أن تستكمله، لتموت من بعده، ولكن لا لتنتهي الحياة عندك، بل لتبدأ حياةً جديدةً ترجع فيها إلى الله حيث تواجه حساب المسؤولية. ولذلك فلا بد لك من أن تجعل كل حركتك وعلاقتك في الدنيا بكل الناس من حولك، حتى أبويك، مربوطةً بالخط الذي يقرّبك إلى الله {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فإذا كان والداك هما اللذان أخرجاك إلى الحياة بشكلٍ مباشرٍ، فإن الله هو الذي خلقهما من قبلك، وهو الذي أودع في جسديهما سرّ انتقال الحياة إليك، فهو الأوّل والآخر في ذلك كله.

* * *

لا طاعة للوالدين في الشرك

{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فاستعملا كل الضغوط التي يملكانها في السيطرة عليك لتنحرف عن خط التوحيد إلى خط الشرك الذي لا حجة لك عليه، ولا علم لك به من ناحية البرهان، أو لتنطلق إلى خط الضلال بعيداً عن خط التقوى، لتتخبط في وحول المعصية، ومتاهات الكفر، ليقنعاك بأن الولد لا بد من أن يتبع والديه، وينسجم مع قناعاتهما، لأن طبيعة العلاقة الحميمة القوية تفرض الارتباط بالعقيدة والسلوك، لتكون العائلة موحّدةً في الفكر والانتماء والسلوك {فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} في هذا المنطق الخاطىء، لأن طاعة الله هي الأساس، فهو وحده الرب الذي يجب أن يعبده الناس كلهم ويطيعوه في كل أوامره ونواهيه، ومهما بلغت علاقة الإنسان بالناس، فإن علاقته بالله أقوى، وحاجته إليه أشدّ، لارتباط كل حياته به، إذا كانت حياته ترتبط بهم في فترةٍ معينةٍ، في الوقت الذي يمتد فيه الارتباط إلى إرادة الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء الصلة الحميمة، والإحسان إليهما، والصحبة لهما بالمعروف، بالرفق بهما، والصبر عليهما، والرعاية لهما في كل الأمور التي تفرضها العلاقة في الدنيا، ما يجعل من مسألة الأبوّة والأمومة، شيئاً يتصل بالإحسان والاعتراف بالجميل أكثر مما يتصل بالطاعة والانتماء الفكري والعملي.

{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} لأن ذلك هو الخط الثابت للعلاقة الوثيقة التي تشمل الخط والانتماء والحركة، وهو الذي يحدد للإنسان مجتمعه الحركي، وقيادته المسؤولة، ونهجه السليم. فليست الطاعة والانتماء إلا للذين يرجعون إلى الله في فكرهم وعملهم وكل توجهاتهم في الحياة. وذلك هو سبيل النجاة، وهو الذي يجعل للحياة خطاً مستقيماً يؤدي بالإنسان إلى سعادته في الدنيا والآخرة، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة، حيث تلتقي العلاقات كلها بالله، ليبقى منها ما ارتبط به، وليزول منها ما انفصل عنه، {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} لتواجهوا على أساس ذلك مسألة المصير.