من الآية1612 الى الآية 19
الآيــات
{يا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمواتِ أَوْ فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* يا بُنّيَّ أَقِمِ الصّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ* وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (16ـ19).
* * *
معاني المفردات
{عَزْمِ الاُْمُورِ}: العزم : عقد القلب على إمضاء الأمر.
{وَلاَ تُصَعِّرْ}: الصعر: ميل العنق، والتصعير: إمالته عن النظر كثيراً.
{وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}: غض الصوت: النقص والقصر فيه.
{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ}: القصد في الشيء: الاعتدال.
* * *
لقمان يتابع مواعظه لولده
{يا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
كيف ينبغي لك أن تفكر بقدرة الله وإحاطته بالأمور كلها في ما تفكر فيه من رزقك، لتحصل على الثقة به، ولتؤمن بالضمانة الإِلهية التي تضمن لك استمرار وجودك في حركة رزقك؟
وكيف ينبغي لك أن تستلهم من ذلك كله كيف يحيط علم الله بالأشياء فيعلم أكثر الأمور دقّةً، وأشدّها خفاءً، وأبعدها عن الرؤية، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض والسماء، ما يجعلك تفكر في عمق المسؤولية ودقتها أمام الحساب الإِلهيّ، وتطمئن للإِحاطة الإلهية، في ما تطلع عليه من كل أدوات الحفظ والرعاية؟
هل ترى صغر الحبة التي لا تكاد تراها بالعين المجرّدة، إلا بجهدٍ وتركيز كبير؟ إن الله قادر في إحاطته المطلقة، أن يأتي بها إليك إذا كانت عنصراً من عناصر رزقك، ليضعها بين يديك، سواء كانت في صخرة سوداء، ضائعة في التراب المجتمع فوقها، أو في الثغرات الموجودة في داخلها، أو كانت في السماوات في أيّ مكان تُفرض فيه، أو كانت في الأرض في سطحها وعمقها، لأن الله لطيف، ينفذ علمه إلى كل شيءٍ، فلا يحجبه شيءٌ عن شيء، خبيرٌ بحقائق الأمور.
وإذا كان الله محيطاً بالأشياء بهذا المستوى، وقادراً عليها، فهل يخفى عليه شيء من عمل الإنسان، في ما يخفيه وفي ما يعلنه، مما هو في مكنونات صدره أو ما هو في خفايا سرّه، أو ما هو بارزٌ في ظاهر حياته، الأمر الذي يفرض عليه الشعور برقابة الله في كل أعماله وأقواله، وفي كل نواياه؟!
* * *
الوصية بإقامة الصلاة
{يا بُنَيَّ أَقِمِ الصّلاةَ} فإنها معراج روح المؤمن إلى الله، وهي التي تعمِّق إحساس الإنسان بوجوده وبحضوره في كل حياته، بالشعور بحضوره القوي في وعيه الفكري والروحي، وهي التي تفسح المجال للعلاقة الحميمة أن تنفذ إلى قلب المؤمن في روحيته وعلاقته بربه.
* * *
والأمر بالمعروف
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فتلك هي مسؤولية الإنسان الذي يؤمن بالمعروف ويرفض المنكر من خلال رسالة الله، فإن الإيمان والرفض، لا يتحركان في معنى الانتماء كحالةٍ ذاتيةٍ تبقى في وعي الذات وممارستها، بل كخطٍ رسوليٍّ يحوّل المؤمن إلى إنسانٍ رسوليٍّ في الدور، وإن لم يكن كذلك في الصفة، لأن هدف الأنبياء أن يحوّلوا المجتمع إلى رسلٍ تنفيذيين في امتداد الدعوة على مستوى تحريك الرسالة في طريق التطبيق، وفي الرقابة الواعية على حركة المجتمع في هذا الاتجاه.
* * *
الصبر من عزم الأمور
{وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ} فليس الصبر مظهر ضعفٍ ولا حالة هروبٍ من الواقع، ولا ابتعاداً عن مواجهة التحدي، بل هو مظهر قوّةٍ في انتصار الإنسان على طبيعة الانفعال في مشاعره، واهتزاز الاندفاع في خطواته، وحركة الارتجال في مواقفه، ليكون البديل عن ذلك عقلانيةً في التفكير، واتّزاناً في الخطوات، وتخطيطاً في المواقف، ليحدّد طريقه على أساس الدراسة الواعية المنفتحة على كل آفاق الحاضر والمستقبل، وليواجه التحديات الطاغية، بالخطة الدقيقة المتوازنة الباحثة عن الوصول إلى الهدف من أقرب طريق. إنها العزيمة الثابتة القوية الصلبة التي تمنح الإنسان معنى الصلابة في شخصيته، ليواجه الحياة من هذا الموقع.
* * *
الله لا يحب المختال الفخور
{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} وهو كناية عن وقفة التكبر والخيلاء التي يشيح فيها الإنسان بوجهه عن الناس، ويعرض عنهم تكبّراً، فإن المؤمن هو الذي يحترم الناس ويقبل عليهم ويتواضع لهم، وينفتح لهم بكل وجهه وقلبه.
{وَلاَ تَمْشِ فِي الاَْرْضِ مَرَحاً} لا تأخذك الخيلاء، ومشاعر الزهو التي تملأ مشاعر الإنسان بالفرح الذي يطغى على شخصيته، حتى يتحوّل ذلك إلى حركةٍ استعراضيةٍ نزقةٍ لا توحي بالهدوء والاتزان.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن الاختيال يوحي بالتكبر والتجبر، والله لا يحب المتكبرين المتجبرين، ولأن الفخر يوحي بانتفاخ الشخصية من غير أساس واقعيٍّ معقولٍ، والله لا يحب الذين يزكّون أنفسهم من دون واقع، لأن ذلك يمثل حالة كذب في الحركة والمظهر، وإن لم يكن كذباً في اللسان.
* * *
القصد في المشي
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، والقصد هو الاعتدال في الشيء، والمقصود أن على الإنسان أن يعتدل في طريقته في المشي، من دون أيّة حركةٍ استعراضيةٍ زائدةٍ عن الحالة الطبيعية التي يؤدي بها المشي مهمته في الوصول إلى الهدف، لأن ذلك يكشف عن عقدة نقصٍ وعن حالة ضعف، مما يستعمله الناس للإِيحاء بنقيض ذلك، ليكون المظهر غطاءً للواقع المنهار، كمن يدقّ الأرض بقدمه بشدّةٍ للإِيحاء بقوّةٍ غير موجودة.
* * *
الغضّ من الصوت
{وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} لأن رفع الصوت بطريقةٍ غير معتادة لا يدّل على أيّة حالة توازن، لأن الصوت يمثل الوسيلة الطبيعية لتسهيل عملية التخاطب والتفاهم، فيكفي فيه ما يحقق ذلك. أمّا ما زاد على ذلك، فإنه يتحوّل إلى سفهٍ وإزعاجٍ للآخرين الذين قد يحتاجون إلى الهدوء والراحة والتخفف من صخب الواقع، فيمنعهم الصوت العالي من ذلك كله، هذا بالإضافة إلى أن الصوت كلما ارتفع أكثر، كلما كان أبعد عن الذوق الفني الجماليّ، لأنه يلتقي بأصوات الحمير المنكرة {إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} الذي يملأ الجو بالإزعاج ويدفع الإنسان إلى التوتر العصبيّ في أكثر من موقعٍ.
* * *
الاستنتاج من وصية لقمان لابنه
وقد نلاحظ أن وصية لقمان لابنه تصبّ في عدة مواقع:
الأول: موقع العقيدة ـ لا تشرك بالله.
الثاني: موقع العبادة ـ أقم الصلاة.
الثالث: موقع المسؤولية والثبات واؤمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك.
الرابع: موقع التهذيب الاجتماعي في السلوك: ولا تصعّر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحاً، واقصد في مشيك، واغضض من صوتك.
وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نفهم كيف تتحرك الموعظة لتشمل كل القضايا المتحركة في هذه الخطوط، ولتكون نهجاً منفتحاً على كل جوانب العقيدة والعبادة والمسؤولية في الدعوة والثبات، والتحرك في المجتمع على أساس المحافظة على كل أجواء اللياقة الاجتماعية، واحترام شعور الآخرين، والاتزان في حركة الإنسان في نفسه ومع الناس، ليكون الإنسان المؤمن إنسان الحياة المنفتح على وحدانية الله في العقيدة والعبادة والمسؤولية والسلوك.
تفسير القرآن