تفسير القرآن
لقمان / من الآية 20 إلى الآية 21

 من الآية 20 الى الآية 21

الآيتـان

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَواتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِير* وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (20ـ21).

* * *

معاني المفردات

{وَأَسْبَغَ}: الإسباغ: الإتمام والإيساع، أي أتمّ وأوسع عليكم نعمه.

* * *

الكون مسخّر لخدمة الإنسان

ويبقى الحديث عن الله وعن توحيده هو الأساس في هدف هذه السورة، ليتأكد ـ من خلالها ـ جانب العقيدة التوحيدية في وعي الناس، لتكون حياتهم صورةً عن ذلك في البداية والنهاية، فهو الموضوع القرآني المتكرر المتحرك في أكثر من أسلوب، وفي أكثر من مضمون.

* * *

تسخير ما في السموات والأرض

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ} فقد جعل الكون مرتبطاً في نظامه بكل ظواهره، فلكل واحد منها موقع معين ودور خاص، في تنظيم الأوضاع المتعلقة بكل الموجودات فيه من إنسان وحيوان ونبات، من خلال اتصالها باستمرار الحياة، وحركيتها وتنوّع خصائصها، ما يجعل ذلك كله مسخراً للناس تسخير الأشياء لمن ينتفع بها من خلال نتائجها، كما نلاحظه من إنزال الماء ليكون منه كل شيء حيٍّ وليستمر به الوجود الحيّ في شروطه الطبيعية، ومن إشراق الشمس لتعطي الدفء والحرارة والنور مما هو شرط للحياة في طبيعتها ونموّها، ومن إنبات النبات وتفجير الينابيع والأنهار، والقوانين المودعة في أنحاء الكون، والتي تحكم الوجود كله، فقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} مما ترونه وتحسونه ويتصل بحياتكم المادية الجسدية، في ما خلق لكم من الأعضاء والأجهزة الداخلية المرتبطة بالنظام العام للوجود الإنساني المتصل بالنظام الكوني كله، وفي ما أخرجه لكم من طيبات الرزق فتأكلونه وتشربونه وتستمتعون به وتلبسونه، وفي ما مهّد لكم من الأرض التي تستقرون عليها وترتاحون فيها، وفي ما أحاطكم به وسلّطكم عليه، من وسائل الأمن والراحة، وفي ما خلقه لكم من العقل والشعور والإرادة، وما تعهّدكم به من خفايا الأمور التي تستفيدون منها بشكل طبيعيّ من دون التفاتٍ وشعور، وفي ما أنزله عليكم من الوحي الإلهي في خط دينه الذي تنتظم به أمور معاشكم ومعادكم، مما لا يحصيه أحدٌ إلا الله، فقد أتم ذلك لكم بأكمل وجهٍ حتى استقامت حياتكم واستمرت في خطها المستقيم.

* * *

المجادلون بغير علم

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} مما يتحرك في العقل من حججٍ وأدلّة {وَلاَ هُدًى} مما يمكن أن يؤكد الفكرة المضادة على أساس الوضوح الذي يزيل الغموض، ويمنع من الالتباس، ويحمي من الضياع، {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} يشتمل على الحقائق المشرقة التي تضيء للناس سبيل الحق، فتدلهم عليه في الفكر وفي الحياة. وتلك هي مشكلة هؤلاء الناس، أنهم لا ينطلقون في جدالهم من قاعدة عقلية أو وجدانية أو حسيةٍ في حركة الأفكار التي يثيرونها، والكلمات التي يديرونها، والخطاب الذي يطلقونه، بل ينطلقون من تقليد الآباء والأجداد، ومن الأهواء الجامحة، والانفعالات الهائجة، مما لا يستقيم به الفكر، ولا ترتكز عليه الحياة، الأمر الذي يحوّل الجدال إلى أساليب السباب والتهاتر والبعد عن الحقيقة، لأنه يفقد القاعدة التي يدور حولها الحوار، وتنطلق منها التفاصيل، فيقفزون من موضوع إلى موضوع، ويهربون من موقعٍ إلى موقعٍ، ويستغرقون في الجزئيات بعيداً عن القاعدة العامة التي تحكم الجميع. وهذا هو الفرق بين الذين يملكون العلم فيجادلون على أساسه، وبين الذين يملكهم الجهل، فيضيعون في متاهاته ويتخبطون خبط عشواء.

وفي ضوء ذلك، فإن القرآن يريد أن يؤكد الحوار من أجل العقيدة والجدال في إثبات حقائقها من ناحية المبدأ، ولكنه يشترط فيه العلم والوعي والوضوح في الوسائل والأهداف.

* * *

اتّباع الآباء في العقيدة

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من وحي يختزن الفكر والمنهج والشريعة، فإنّ فيه الهدى كل الهدى، والنجاة كل النجاة في الدنيا والآخرة، {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} لأننا لا نريد الانفصال عن خط العشيرة في أفكارها وأوضاعها ومنهجها في الحياة، لأن ذلك هو الذي يحقق وحدة الماضي والحاضر، ويجمع العواطف والعصبيات في دائرة واحدةٍ، ويصون العلاقات من التفكك والانفصام، ويحقق الوفاء. ولكنّ هذا المنطق الذي يقدمونه، ليس هو المنطق العاقل المنطلق من أساسٍ متين، بل هو منطق الشيطان الذي يختبىء في داخل العواطف والمشاعر والعلاقات، ليبعد الإنسان عن خط العقل المنفتح على الله، وليدفع به إلى الهلاك والدمار والعذاب، لأن الشيطان لا يدعوهم إلى ثواب الله في جنته، بل يدعوهم إلى عذابه في ناره.

{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ} المتمثل في هذه الدائرة التاريخية التي كانت مسرحاً لكل نزعاته وحيله ومكائده وأضاليله، في ما كان يطل به على حياة هؤلاء الذين عاشوا فيها على أساس الجهل والتخلف، {يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} في ما يؤدي إليه هذا الاتجاه في نهاية المطاف؟!