تفسير القرآن
لقمان / من الآية 22 إلى الآية 30

 من الآية 22 الى الآية 30

الآيــات

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاَْمُورِ* وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ* وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* لِلَّهِ مَا في السَّمَواتِ وَالاَْرْضَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ* وَلَوْ أَنَّ ما فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ* أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (22ـ30).

* * *

معاني المفردات

{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: المستمسك الذي لا انفصام له.

* * *

تسليم الوجه لله استمساك بالعروة الوثقى

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بالاستسلام الكلي له في كل أموره، والإقبال الكامل عليه بكل أقواله وأفعاله، بحيث تكون ذاته خاضعةً له بكل عمق الفكر والشعور، ويكون الله هو ما تتطلع إليه بكل أحاسيسها وأفكارها ومشاريعها العملية، في ما يوحي به تسليم الوجه لله، من معنى يجعل التوجّه في كل اتجاه بيد الله، فهو الذي يحدد له وجهته في كل مواقع رضاه، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله وسلوكه الذي يتحرك معه في اتجاه إسلامه لربّه { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} التي لا انفصام لها، لأنها تمثل الصلابة القوية التي لا مجال فيها للخلل من كل جهةٍ، لأنها ترتبط بالله، وكل ما يرتبط به فهو ثابت ثبات الكون كله.

* * *

إلى الله عاقبة الأمور

{وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاَْمُور} حيث يجد هؤلاء المسلمون أمرهم إلى الله، المحسنون في أعمالهم، كل خيرٍ وثوابٍ ورحمةٍ وفوزٍ عظيمٍ في جنة الله ورضوانه، {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} لأنك أدّيت ما عليك من إبلاغ الرسالة بكل الأساليب المقنعة، والحجج القويّة، فلم تدع مجالاً لشبهة، ولم تترك موقعاً لتساؤل، وفتحت لهم كل أبواب الوضوح في الرؤية، ورغَّبتهم بكل وسائل الترغيب، وخوّفتهم بكل مواقع التخويف، فلم يستجيبوا لك وأصرّوا على التمرّد، ما يوحي بأنهم لا يتحركون من موقع شبهةٍ بل من موقع عقدةٍ، فهم يعرفون الحقّ وينكرونه، ويتحركون في الضلال، وهم يتطلعون إلى مواقع الهدى في رسالتك، فلا يستحقون هذه المشاعر الطاهرة التي تنبض بالرحمة لهم، وإذا كنت تتألم وتحزن للكفر أن يقوى بهم، وينتشر من خلالهم، فإن الله هو الذي يملك القوّة، ويملك مقاليد الأمور، فسيرجع الجميع إلى الله، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} ليكون الحساب من موقع الحجة الدامغة التي تعرفهم بكل ما أظهروه وما أضمروه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} في الأفكار العميقة الخفية، والمشاعر الدقيقة الغامضة.

وهكذا ينالون جزاء أعمالهم بكل عدالةٍ واستقامة، بعد أن أفسح لهم المجال الواسع للتجربة الحية في إرادة الإنسان بين الهدى والضلال {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} في الدنيا {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } فنقودهم إلى المصير الأسود الذي ينتظرهم في النار جزاءً لكفرهم في العذاب الشديد، وفي كلمة «نضطرهم» معنى القهر والقوّة.

* * *

معرفة الله فطرية

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} من منطق الفطرة التي تكتشف الله في كل مظهر من مظاهر الوجود بشكلٍ عفويٍ طبيعي، ما يفرض عليهم أن يلتزموا بنتائج الاعتراف بهذا المنطق، في الجانب التفصيلي من علاقة الوجود بالله، وحركة الإنسان في الخضوع لإرادته، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه} في ما ينبغي له من الحمد في عمق صفاته الحسنى وفي ما يظهره من حقائق الأمور في العقيدة والحياة، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لاستغراقهم في الغفلة الضائعة في أجواء الأحلام والشهوات، فلا يملكون معها ما ينفتحون به على الحقيقة التوحيدية في آفاق الله، ولا يطيقون الدخول في مناقشات جدّية حول ما هو الحق والباطل في هذه العقيدة أو تلك، بل يرتبطون بالجانب السهل من القضايا والأساليب، ما يجعلهم فريسةً سهلةً لكل المضلِّلين والمنحرفين على الفكر والموقف.

وتبقى القلّة من الناس، التي تملك العقل والإِرادة والعمق في الأمور، فتواجه العقيدة من موقع الفكر الجدّي، والمتابعة الدائبة، والحوار العلمي الرصين، والنفس الطويل الذي يرصد الفكرة البعيدة ليقترب منها بالبحث والتأمّل، ليصل إليها ولو بعد حين، فيؤمنون من خلال ذلك بالله، ويلتزمون نهجه، ويتحركون في هداه.

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمواتِ وَالاَْرْضَ} وهذه هي الحقيقة الكونية التي تنطلق من عمق الإيمان بأن الخالق هو المالك، فإذا كان ما في السماوات والأرض مخلوقاً له، فلا بدّ من أن يكون مملوكاً له، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} فهو الغني عن خلقه بذاته، من موقع افتقارهم المطلق إليه من طبيعة ذواتهم، وهو المحمود في صفاته وكل حمد لغيره فهو مستمد من حمده، في خلقه الذي أبدعه، وفي نعمه التي أعطاها، التي لا يحدّها شيء، ولا يحصيها عدد.

* * *

كلمات الله لا تنفد

{وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} لتكتب كل ما أبدعه الله، وما أنعم به، وما دبّره ونظّمه ورعاه من كل ما مضى، وما يبقى، ليتحول ذلك إلى كلمات، فلن تنتهي إلى نهاية محدودة، لأن كلمات الله لا تنتهي عند حدّ معيّن، فهي تنطلق من قدرته اللامتناهية، فلو كانت الفرضية كما ذكر، بل أكثر مما ذكر {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهو القاهر بعزته فلا يقهره أحد، وهو الحكيم بتدبيره في إتقان كل خلقه وإبداعه.

{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فلا فرق بين خلق الواحد وخلق الجميع في قدرته، كما لا فرق بين الواحد بعد الموت في الإمكان وبعث الجميع، لأن الحديث عن الكثرة والقلة في حجم القدرة، إنما هو في نطاق القدرات المحدودة، التي قد يجهدها رقم كبير، ويريحها رقم صغير، ولكن الله سبحانه الذي يملك القدرة المطلقة التي تتحرك من موقع إرادته التي تقول للشيء كن فيكون، لا يجهده الخلق مهما كان كثيراً، ما يجعل القليل والكثير عنده على حدٍّ سواءٍ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} في ما يمثله ذلك من معنى الإِحاطة التي تحيط بكل شيء يكشفه السمع أو البصر، فلا يغيب عنه شيء، كما لا يعجزه شيء. ولعل التعليل بهاتين الصفتين من صفاته ـ سبحانه ـ ينطلق من اختزان الفقرة الأولى في الآية معنى القدرة المطلقة في الوجود وفي الإِحاطة، مما قد يجعل للسمع وللبصر نوعاً من تأكيد ذلك، والله العالم.

* * *

مظاهر التدبير الكوني

{أَلَمْ تر أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الليْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، في هذه الصورة المتحركة في حركة الكون من حولك، على أساس التدبير الإِلهي في النظام الكوني العام في دائرة الزمن، حيث يزيد الليل تارة وينقص أخرى، كما يحدث ذلك في النهار في نظام ثابت في آفاق هذه الحركة. وهكذا يلاحظ الإنسان كيف سخّر الله الشمس والقمر لتحقيق الغايات التي أرادها فيهما لمصلحة الحياة والإنسان، وكيف يتحركان في نظامهما الكوني، في اختلاف طلوعهما وغروبهما، واختلاف جريانهما ومسيرهما في الحس الظاهر من دون حدوث أيّ خلل في هذا أو ذاك، مهما امتد الكون وامتدت الحياة، ما يوحي بالنظام المبدع، والتدبير الدقيق، والعلم الواسع المطلق الذي يجعل الأشياء كلها حاضرةً أمامه، قبل وجودها، وبعد وجودها، كما يوحي للإنسان، في عمق شعوره، باطّلاعه على كل دقائق أعماله، فيدفعه ذلك إلى الانضباط في حركته، والتوازن في موقفه، والإحساس بالرقابة الدائمة عليه، من خلال الحقيقة الإلهية المنطلقة من إحاطة الله وخبرته بالأعمال والأقوال، في دائرة خبرته بالإنسان كله، {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} فكيف تنكرون ذلك في سلوككم، في الوقت الذي يفرضه عليكم إحساسكم بوجودكم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} فهو الحقيقة الثابتة في عمق الوجود كله، بكل ظواهره ومفرداته وتفاصيله، لأن كل شيء مستند إليه، وخاضعٌ لإرادته، ومفتقر إليه، وموجود به، ما يجعل الأشياء بمنزلة الظل والصدى الذي لا قوام له بنفسه، بينما يقوم الله ـ سبحانه ـ بذاته.

ومن خلال ذلك، نتعرف الحق في ربوبيته وألوهيته المطلقة، وعبودية كل الموجودات له، فلا شريك له ولا نظير، ولا شبيه ولا وزير، وهكذا تنطلق العقيدة بوحدانيته من موقع اكتشاف عظمته المطلقة في ذاته وصفاته.

{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} لأنه لا يملك من هذه الصفة التي يدّعونها له شيئاً، لأن وجوده في كل شؤونه، عين الفقر والحاجة إلى كل ما حوله من شروط الوجود المرتبطة بإرادة الله وحده، فكيف يكون شريكاً لله ومعبوداً من دونه.

{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} وكل ما عداه حقير وصغير، لأنه هو الذي يملك العلوّ والسموّ في ذاتية عليائه، وهو الذي يملك الكبر في طبيعة وجوده. أما غيره، فإن علوّه محدود طارىء، وكبره عارض زائل، وهما مستمدّان من العناصر المودعة في وجوده التي أعطته ذلك كله.