المقدمة + من الآية 1 الى الآية 9
سورة السجدة
مكية وهي ثلاثون آية
الآيــات
{الم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ* يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ* ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} (1ـ9).
* * *
معاني المفردات
{يَعْرُجُ}: يصعد.
{مَّآءٍ مَّهِينٍ}: المهين من الهون، وهو الضعف والحقارة.
* * *
تنـزيل الكتاب لا ريب فيه
{الم} من الحروف المقطعة، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} هذا الكتاب المنزل لا ريب فيه، لأن دلائله كامنة فيه {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} الذي يعرف كل ما تحتاجونه وما تفيضون فيه وما تنتهون إليه، ويعرف كيف يخطط لكم علم ذلك كله، وليبين لكم ـ من خلاله ـ ما ينبغي لكم أن تعملوه وتتركوه.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} فكيف يقولون ذلك، وهل يملكون حجّةً على هذه الدعوى، وما هي، وهل يستقيم لهم ما يتخيلونه من أوهامهم {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} فقد بَعُدَ عهدهم بالرسل، وأحاطت بهم الجهالة من كل جانب، وحفّت بهم عناصر الضلالة، فلا بدّ لهم من النذير الذي يصدمهم بالحقيقة ويفتح قلوبهم على الله من أقرب طريق {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون } إلى معرفة توحيد الله، فيخلصون له العبادة، ويلتزمون نهجه في الشريعة، ويلتمسون الوصول إلى رضاه.
* * *
خلق السماوات والأرض
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} في ما يفرضه الزمن من حدود الأشياء التي تحتاج إليه في وجودها التدريجي المترتب على علاقة بعضها ببعض، لا في ما يتصل بقدرة الله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} والاستواء يمثل المعنى الكنائي في السيطرة على الكون والإحاطة به من موقع العلوّ والقدرة على تدبيره وتنظيمه، أما كلمة العرش فتختزن معنى الحكم الذي يتصل بالتدبير الشامل لما تحت سلطانه.
* * *
معنى الاستواء على العرش
وربما كان في الحديث عن الاستواء على العرش إشارةٌ إلى استناد التدبير إلى الله في مقابل الفكرة التي كان يعتقدها المشركون أن الله هو الخالق للعالم، ولكنه أوكل أمر تدبيره إلى آلهتهم المزعومة، فكان من الضروري أن يتحدث القرآن عن الله من موقع الخلق والتدبير معاً، لتكتمل الصورة في العقيدة بالله من جميع الجهات.
{مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون} أي ليس لكم ولي في ما تدعونه، أو ممن تدعونه من الأولياء الذين يشرفون عليكم ويدبرون أموركم، كما ليس لكم شفعاء تتخذونهم وسطاء لموقع الوجاهة الذي لهم عند الآخرين، ما يجعلهم في موقع القادر على إيصال الأمور إلى درجة التحقق والإنجاز، وذلك عندما يحتاج الإنسان إلى مثل هذا، في ما تقتضيه طبيعة القضايا المرتبطة بإرادة الآخرين. فالله سبحانه وتعالى هو المستقل بتدبير الكون وتنظيم أموركم، وهو الذي يحسم كل ما يتعلق بشؤونكم وشؤون حياتكم وحياة كل مخلوقاته من دون أيّة مدخليةٍ لأحد في شيءٍ من ذلك، فلا سبب بينه وبين هذه الأمور مجتمعة إلا ما شاء وأراد.
* * *
شفاعة الله
وقد اختلف المفسرون في إطلاق كلمة الشفيع على الله سبحانه، لأن هذه الكلمة تعني الوساطة لدى الغير مما لا يتصور له أيّ معنى في الله، ولكن التأمّل في الآية يوحي بأن المقصود هو نفي علاقة أيّ جهة بإرادته بنفي صفة الولاية والشفاعة عن الآلهة المدّعاة من قِبلهم، وليس المقصود الحديث عن صفة الله في الولاية والشفاعة في هذا المجال، ما يجعل التأكيد على أن لا يكون مَنْ دونه ولياً وشفيعاً، منطلقاً من مناقشة الفكرة الشركية لا لتقرير الصفة التوحيدية في ذلك؛ والله العالم.
* * *
عروج الملائكة والروح
{يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الاَْرْضِ} في ما قد توحيه كلمة السماء من معنى العلوّ والسموّ الذي يتحرك تدبير الله منه، في سلسلةٍ مترابطةٍ تشمل كل الظواهر الموجودة فيه، وتنتهي إلى الأرض لتشمل كل مواقعها في السطح وفي العمق وفي الفضاء.
وربما كان التعبير بابتداء الأمر، الذي هو كناية عن الشأن المتعلق بالأشياء من السماء، إشارةً إلى الإِيحاء للمقام الإِلهيّ السامي الذي يقع في آفاق العلو، ما يفرض أن يكون ابتداء الفعل من الموقع نفسه، وفي الأفق نفسه، باعتباره مركز التدبير الرئيس الذي تنزل منه الإِرادة إلى الأرض.
{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} حيث تعود الأمور كلها إلى الله في حركتها المتصلة بمواقع أمره ونهيه، في ما يرتبط بمسألة المسؤولية الإنسانية في أفعاله وأقواله وعلاقاته بالله وبالحياة وبالإنسان، ليواجه الموقف بين يدي الله في يوم القيامة الذي لو طبق على مقاييس الزمان في الأرض لكان مقداره ألف سنة في التقدير.
وقد جاء في تقدير يوم القيامة، بأنه خمسون ألف سنة، وذلك في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْملائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فكيف نوفق بينهما؟ وربما كان التقدير الأخير بلحاظ الشعور الداخلي لدى الكافر بالمشقة الكبيرة من خلال ما يعانيه من أهوال القيامة، وربما كان التقدير بالألف سنة، بلحاظ مشهدٍ واحدٍ من مشاهد يوم القيامة، وهو خمسون موقفاً، كل موقف مقداره ألف سنة كما جاء في بعض التفاسير؛ والله العالم.
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} الذي إذا عاش الإنسان في رحاب طاعته، واستظل بظل رحمته، وتحرك من أجل الحصول على رضاه، فإنه يعيش كل الأمن والاطمئنان في مواقع عزته ورحمته وعلمه الذي يحيط بكل شيء.
* * *
عملية خلق الإنسان
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} في ما يحتاجه وجوده من عناصر متنوعة تتكامل في طبيعتها لتحقق كل النتائج الإيجابية، في ما هو الغرض من وجود الأشياء، فلا خلل في أيّ مخلوق في أصل خلقته من هذه الجهة.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ} عندما خلق الأب الأوّل للإنسان، وهو آدم، من طين {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ليتحرك امتداد النسل في الإنسان بالطريقة التناسلية التي تفرز النطفة في رحم المرأة، فتلقح بويضة الأنثى وتتحد معها في بداية رحلة الوجود للإنسان، وهكذا كان التخطيط الإِلهي لوجود الإنسان في الكون، أن يكون الطين مادّة خلقه التي تبدأ بشكل مادي مباشر ثم تتطور وتتحول إلى نطفة من مصادر الغذاء الأرضية التي تتكون منها، ثم بدأت فعلية الخلق الأول {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} فصار خلقاً سوياً متحركاً بالحياة في كل خلايا جسده، فهل عرفتم أيُّها الناس نعمة الله عليكم في عملية الخلق، وهل تتأملون في تفاصيل وجودكم التي لولاها لما استطعتم أن تشعروا بقيمته وبحيويته وباستمراره؟ {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ} وهي العقول التي تدير الوجود كله من خلال أدوات السمع والبصر والتفكير، ولكن المشكلة هي أن القليل منكم هم الذين يلتفتون إلى هذه النعم ويشكرونها، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} مما لا يتناسب مع الحجم الذي ينبغي لكم أن تقدموه من شكر الله على نعمه التي لا تحصى.
تفسير القرآن