تفسير القرآن
السجدة / من الآية 10 إلى الآية 14

 من الآية 10 الى الآية 14

الآيــات

{وَقَالُواْ أئِذَا ضَلَلْنَا فِي الاَْرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ* وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ* وَلَوْ شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين* فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}      (10ـ14).

* * *

معاني المفردات

{يَتَوَفَّاكُم}: أخذه تاماً كاملاً، كتوفي الحق، وتوفي الدين من المديون.

{نَاكِسُو}: نكس الرأس: إطراقه وطأطأته.

* * *

منطق المنكرين ليوم القيامة

وتدخل الآيات في أجواء الحديث عن منطق المنكرين لليوم الآخر وعن المنطق الإيماني، وعن النتائج السلبية التي يلتقيها الرافضون ليوم القيامة {وَقَالُواْ أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الاَْرْضِ أَئنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ووضعنا في داخلها أو في سطحها، وضاعت كل ملامحنا، في ما يتفتت من أجسادنا، حتى يتحول إلى تراب ضائع في الأرض كأيّ تراب آخر ليس فيه نبضةٌ من حياةٍ، ولا ملامح مشروع بشريٍّ {أَئِنَّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تتجدد فيه أجسامنا لتأخذ شكلها الطبيعي وحيويتها الروحية وروحيتها الفاعلة في الوجود، تماماً كما هو الخلق في الماضي في حيويته وفي حركيته، هل هذه فرضيّةً معقولةً في حساب التحليل العقلي للإنسان؟

ولكن الله يرد عليهم الفكرة بالتأكيد على خلفية الفكرة الرافضة أو الشاكة {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} فهم يكفرون بالموقف بين يدي الله للحساب الذي يفرض عليهم الإيمان به أن يلتزموا خط الإيمان ومسؤوليته، وأن يواجهوا التحدي الرسالي وجهاً لوجه. أمّا مسألة استبعاد الخلق الجديد فليست من المسائل المطروحة عندهم للفكر الجدّي الذي يدفع إلى الحوار في الأساس والتفاصيل، في ما تلخِّصه الفكرة القرآنية المتكررة القائلة بأن الله القادر على الإِيجاد هو القادر على الإعادة، فأين الاستبعاد في موقعه الفكري السليم؟

* * *

الردّ على المشككين بالبعث

{قُلْ يَتَوَفاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} فقد كنتم في حياتكم مشدودين إلى ملك الله ومرتبطين بإرادته، وها أنتم في قبضة الموت خاضعون له، فقد وكل ملك الموت بكم ليتوفاكم عندما يبلغ العمر نهايته، في النظام الإِلهيّ للموت، كما هو النظام الإِلهيّ للحياة، في الخطة الإلهية الشاملة التي تحكم الموت والحياة، وتبدع الحياة في الأجزاء الضائعة في التراب كما أعطت الحياة للتراب الضائع في ذرات العناصر التي يتكون منها الغذاء، فأين المشكلة، هل هي في قدرة الله، أو هي في علم الله في مواقع أجزاء الجسد؟ {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وهنا يتدخل عنصر الخطاب الإِلهي في مسألة البعث بعد أن كان الحديث بطريق الحكاية في أسلوب الغيبة، ليشعر الناس بالحضور الإِلهي القويّ المهيمن الذي يختصر لهم كل المسألة، ويهدم كل شبهاتهم، فهو الرب العظيم القادر العليم الجبار القاهر المتكبر يتحدث إليهم بشكل مباشر ليؤكد لهم العودة إليه بطريقة حاسمة.

وربما قرّر البعض حجة المنكربن للبعث من خلال هذه الآية، بأن تفتت أجزاء البدن الذي يؤدي إلى تلاشيه يبطل شخصية الإنسان فينعدم ولا معنى لإِعادة المعدوم.

* * *

وقفة مع صاحب الميزان

ويرد عليها صاحب الميزان بقوله:«إن حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها بقول «أنا» وهي غير البدن، والبدن تابعٌ لها في شخصيته، وهي لا تتلاشى بالموت ولا تنعدم، بل محفوظةٌ في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء، فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه» ثم يتابع قوله: «إن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرّد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شيءٍ من حالات البدن»[1].

وقد نلاحظ على هذا الردّ والاستنتاج، بأنَّ لقائل أن يقول: إن حقيقة الإنسان التي يعبر عنها بقوله «أنا» هي هذا الوجود الحيّ المتحرك الذي يمثله الجسد الذي تدب فيه الحياة، ويتحرك فيه العقل والإِرادة، لا النفس المجرّدة، لأنّ الملحوظ في الشعور الإنساني في شعور الشخص بذاته، أنه يختزن إحساسه بالجسد كمظهرٍ حيٍّ للذات، ولذا يقال: هذا أنا بلحمي ودمي، أو هذا فلان بعينه. بل ربما نستطيع التأكيد على أن القصد إلى الروح ليس وارداً في التصور، بل هي شيء خفيٌّ من حالات البدن من خلال الإحساس بالحياة فيه.

أمّا الردّ على مسألة نفي إعادة المعدوم، فيمكن التأكيد فيه على بقاء الجسد بذراته المادية الترابية، وعلى انطلاق الحياة من موقع قدرة الله في ما تعبر عنه الآية {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين} [الحجر:29]، ما يوحي بأن الحياة هبة من الله تنطلق من الإرادة، وليست شيئاً عضوياً يتلاشى ويموت وينعدم.

* * *

المجرمون يطلبون العودة ليعملوا صالحاً

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} في موقف الخزي والعار الذي يقفونه أمام الله من دون أن يملكوا حجّة على ما اعتقدوه وما علموه، وما أنكروه من قضايا العقيدة والعمل، في ما هو بحجم الجريمة، لا سيّما في مسألة إنكار البعث الذي أقام الله عليهم الحجة فيه في وحيه لرسله.

{رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} ولم يبق عندنا شكٌّ في هذه الحقيقة الإيمانية المتجسدة في اليوم الآخر الذي نشاهده عياناً ونفتح أسماعنا لنداء الله فيه. فليست هناك مشكلةٌ في الإيمان، ولكن المشكلة هي كيف نغيّر ميزان العمل، ليكون راجحاً في الطاعة لا في المعصية، فهل يمكننا أن نقدم طلب استرحام لله في إرجاعنا إلى الدنيا، بعد هذه الصحوة الإيمانية التي فرضت نفسها على أسماعنا وأبصارنا، لنبدأ العمل في هذا الخط في ساحات العمل الصالح؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} بك وبرسلك وبيوم الحساب، {وَلَوْ شِئْنَا لآََتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} كما أعطيناها سمعها وبصرها وعقلها وشعورها، ليكون الهدى حالةً تكوينيةً في الذات، لا حالةً إراديةً في الخط والحركة، ليكون الناس بأجمعهم مؤمنين صالحين.

وقد فسّرها صاحب الميزان بتفسير آخر: قال: أي لو شئنا أن نعطي كل نفس أعم من المؤمنة والكافرة الهدى الذي يختص بها ويناسبها، لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر وإرادته أن يتلبس بالهدى، فيتلبس بها من طريق الاختيار والإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك، فتلبس بالهدى باختيار منه وإرادةٍ من دون أن ينجر إلى الإِلجاء والاضطرار فيبطل التكليف ويلغو الجزاء[2].

ولكن الظاهر أن الحديث يتجه إلى مسألة التكوين القهري، لا التكوين الاختياري، على نهج قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، كما أننا لا نفهم كيف ننفي مشيئة الله للكافر أن يختار الهدى بعيداً عن الجبر والقهر، مع أن الخط التكليفي يفرض ذلك في توجيه الإنسان إلى اختيار الهدى من موقعه الاختياري، ولعلّ ما ذكرناه هو الأنسب بالفقرة التالية: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْي لاََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فإن الظاهر أن تحقيق هذا القول يتناسب مع إبقاء عنصر الحرية والاختيار في حركة الإنسان، لأنه هو الذي يجعل التنوّع في الاختيار عندما يختار الكافر الكفر من موقع إرادته، كما يختار المؤمن الإيمان من موقع اختياره، فيدخل الله الكافرين جميعاً في جهنم، ويدخل المؤمنين في الجنة.

{فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ} عندما استسلمتم للدنيا واسغرقتم في شهواتها، فلم تنتبهوا إلى ما وراءها من الحياة الآخرة التي ينتظر الخلق فيها حساب المسؤولية، ولم تعملوا على أساس الانسجام مع خط المسؤولية {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} وأهملنا كل طلباتكم ودعواتكم واستغاثتكم، لأن جزاء إهمال الإنسان أمر ربه، هو إهمال الله أمر مصيره.

{وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من أعمال شريرةٍ في خط معصية الله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:16، ص:257.

(2) تفسير الميزان، ج:16، ص:258.