تفسير القرآن
السجدة / من الآية 15 إلى الآية 22

 من الآية 15الى الآية 22
 

الآيــات

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بَِايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ* أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ* وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (15ـ22).

* * *

معاني المفردات

{تَتَجَافَى}: التجافي: التنحي، يقال: جفا عنه يجفو جفاءً، وتجافى عنه تجافياً إذا نبا عنه.

{جُنُوبُهُمْ}: جمع جنب، وهو الشقّ.

{الْمَضَاجِعِ}: جمع مضجع، وهو الفراش وموضع النوم.

* * *

من صفات المؤمنين في علاقتهم بالله

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بَِايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} هؤلاء الذين عاشوا القلق الروحي الباحث عن الله من أجل الوصول إلى معرفته، وانفتحوا على كل لمعات النور التي تقود إليه، وتحركوا هنا وهناك، ليبحثوا عن مواقع رضاه في كل كلمةٍ من كلماته، لم يواجهوا الحياة بغفلة، ولم يبيعوا المصير بشهوةٍ، ولم يمروا بها مروراً عابراً كما يفعل الغافلون الذين لا يتوقفون أمام مواقع العظة والعبرة، بل توقفوا عند كل ظاهرةٍ من ظواهرها، وكل حدث من أحداثها، وتطلعوا إلى المستقبل من دروس الحاضر، وعاشوا الحاضر في أجواء تجربة الماضي، ما يجعل أسماعهم مفتوحةً لايات الله، وقلوبهم مشغوفةً بذكره وحياتهم متحركةً في دروبه.

فإذا ذكروا بآيات الله ازدادوا معرفةً بعظمته، وإيماناً بوحدانيته، فعاشوا الخشوع في أعماقهم، والخضوع له في وجدانهم، والانسحاق أمامه بإرادتهم ومشاعرهم، فسجدوا بين يديه، إعلاناً للتسليم المطلق له، ليسجد له كل عضو في أجسادهم، وكل خفقة قلب في أفئدتهم، وكل نبضة روح في أرواحهم، وعرفوا الله في مواقع حمده، التي هي مواقع خلقه ونعمه، فسبحوا بحمده، ليبقى لهم تسبيح الحمد، وحمد التسبيح، انفتاحاً دائماً على آفاق عظمته التي يصغر أمامها كل شيء سواه {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} فليست الكبرياء من أخلاقهم لتقودهم إلى التمرّد على الحق، والابتعاد عن أهله، والتكبر عن الإقرار بحقائقه، وإلى الإعراض عن الله، بل هم المتواضعون الذين يتواضعون في أنفسهم من موقع التواضع لله الذي لا ينبغي لأحدٍ من خلقه أن يعيش الشعور بالعظمة الذاتية أمامه، ويتواضعون لله في قيامهم وركوعهم وسجودهم، ليشعروا ـ دائماً ـ بالحاجة إليه، والانقياد له، والإقبال عليه، فيزيدهم ذلك إيماناً به واستقامةً على خطّه المستقيم، وإقراراً بأن كل شيء يملكونه في أنفسهم وفي ما حولهم، فهو من عند الله وحده.

وعندما يقبل الليل، ويطبق على الكون بظلامه، ويهدأ الناس في مراقدهم، ويخلو الجوّ من كل ضجيج، فإنهم ينتهزون فرصة هذا الهدوء الشامل الذي ينساب في المشاعر وفي الأرواح، ليقفوا بين يدي الله، وقفة ابتهال وخشوع ودعاء {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} فيبتعدون عن النوم فيها ويلجأون إلى أماكن صلاتهم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} لأنهم لا يخافون إلا من عقابه، ولا يطمعون إلا برحمته ونعمته من دون إحساسٍ بالذلّ في السؤال، لأن الذل أمام الله من موقع العبودية، هي قاعدة العزة أمام الآخرين. وكيف يحس الإنسان بالذل في سؤاله لربه، وكل وجوده تجسيد لعبوديته له وخضوعه له، ما يفرض عليه أن يؤكد ارتباطه به، ليؤكد انفصاله عن غيره، فليس للآخرين إلا دور الأداة في قضاء حاجاته {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} لأنهم لا يشعرون بأنانية الامتلاك في ما يملّكهم الله إيّاه، بل بمسؤولية القضاء في ذلك كله، على أساس أن الملك ليس حالة امتياز، بل وظيفة ومسؤولية يحركها الإنسان في حاجاته، ويستعين بها على قضاء حاجات غيره، ممّن أوكل الله أمرهم إليه، وحمّله مسؤولية الإنفاق عليهم.

{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} في ما أعده الله لهم من ثوابه في جنته ومن لطفه في رحمته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فترتاح له نفوسهم، وتقرُّ به عيونهم، وينطلقون من خلاله إلى كل آفاق السعادة الدائمة {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من طاعة الله في أوامره ونواهيه، فإن الله لايضيع أجر من أحسن عملاً.

وذلك هو أساس القيمة عند الله، في ما يتفاضل به الناس لديه، ويتقربون إلى مواقع رضاه، وهو العمل المرتكز على قاعدة الإيمان، لأنه ليس بين الله وبين أحدٍ من خلقه قرابة أو علاقة إلا بالعمل، حتى الأنبياء، فإنهم كانوا قريبين إلى الله من ناحية إيمانهم وعملهم، لا من ناحية شخصيتهم الذاتية. وهذا هو الذي أراد الله أن يقرّره في الآيات التالية في الخط الفاصل بين المؤمنين والفاسقين.

* * *

عدم استواء المؤمن والفاسق

{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} عند الله، وفي وعي المؤمنين الملتزمين، لأن الاتفاق في الصفات الذاتية في العلم والقدرة والجمال والمال والجاه ونحوها لا يعني الاتفاق في القيمة في ما هو التقييم العملي الإنساني في الشخصية، لأن حركية الإنسان هي سرّ معناه، في ما توحي به من عمق الإيمان، ومن امتداده في حياته وانقياده لربه، فلا يستوي المؤمن الملتزم الذي عاش التزامه في إيمانه وعاش إيمانه في حركة مسؤوليته، والفاسق الخارج عن خط الالتزام بالله ورسله وشريعته في ما هو وعي الإيمان، وفي ما هي حركة العمل. وهذا هو ما يجب أن يعيشه الخط الإسلامي العملي في عملية التقييم، ليكون الأكثر إيماناً وعملاً، هو الأقرب إلى الروح والعقل والشعور، والأفضل في درجات الاحترام.

وليس معنى ذلك أن لا يكون للعمل قيمته في مقام التفاضل، أو للصفات الأخرى موقعٌ في ساحة التقدير، فقد أكد الله عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولكن المسألة هي في تفاعل العلم مع الإيمان والمسؤولية، وحركة الصفات الذاتية الأخرى في نطاق الصفات الإيمانية والعملية.

* * *

ثواب الذين آمنوا وجزاء الفاسقين

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في ما يهيئه الله لهم من مساكن طيبة في جنته، ومن مشتهيات لذيذة في داره، {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} التي يخلدون في عذابها، فلا مجال للخلاص منها، {كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فهذا هو الصدق الذي جاءكم به الأنبياء وتحدثت به الكتب المنزلة، وها أنتم تواجهونه من موقع لذعات النار ولهيبها، لا من موقع الكلمات التي تسمعونها، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى} الأقل خطراً وتأثيراً على الجسد في آلامه، في ما يحل بهم من بلاء الدنيا الذي هو {دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ} الذي ينتظرهم في الآخرة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى الله وإلى طاعته، بالإنابة إليه، والتوبة مما أسلفوه من الذنوب. وهكذا يربيّ الله عباده بالبلاء الذي قد يكون نوعاً من العذاب في الدنيا، ليذوقوا مرارته، ويحسّوا بآلامه، ويتذكروا به عذاب الآخرة، فيرجعون إلى الله بعد أن ابتعدوا عنه وتمردوا على طاعته.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ} لأنه ظلم ربه بالكفر والمعصية، في ما تمرّد عليه من حقه، بأن يوحّده ولا يشرك به، وأن يطيعه ولا يعصيه، وظلم نفسه بذلك، لأنه أفقدها الفرص الكبيرة في الحصول على نتائج السعادة الدنيوية والأخروية في مواقع الإيمان والطاعة، وفي ما أوقعها في غضب الله وعذابه في الآخرة، وظلم الحقيقة والحياة والناس، بالتنكر لما ينفع الحياة والناس في خط الحقيقة، {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون} لأنهم أجرموا في حق أنفسهم وفي واقع الحياة، وفي حق الله سبحانه، ما يجعلهم مستحقّين للانتقام الذي لا ينطلق من موقع التشفي، بل من موقع المقابلة للنتائج السلبية التي أدّت إليها الجريمة على أكثر من صعيد.