من الآية 23 الى الآية 30
الآيــات
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ* وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِايَاتِنَا يُوقِنُونَ* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ في مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ* أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ* وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} (23ـ30).
* * *
معاني المفردات
{مِرْيَةٍ}: المرية: الشك والريب.
{نَسُوقُ}: السوق: الحثّ على السير.
{الاَْرْضِ الْجُرُزِ}: الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها.
* * *
وآتينا موسى الكتاب
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} كما آتيناك القرآن {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أي في شك من ذلك.
وقد اختلف المفسرون في مرجع الضمير في كلمة «من لقائه»، فذهب كل فريق إلى رأي، ولكن أكثر هذه الآراء لا ينسجم مع جو الآية.
واحتمل صاحب الميزان أن يرجع ضمير «لقائه» إليه تعالى، والمراد بلقائه البعث بعناية أنه يوم يحضرون لربهم لا حجاب بينه وبينهم، كما تقدم، وقد عبر عنه باللقاء قبل عدة آيات في قوله: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10] ثم عبّر عنه بما في معناه في قوله: {نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة:12].
فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب، كما آتيناك القرآن، فلا تكن في مريةٍ من البعث الذي ينطق به القرآن بالشك في نفس القرآن، وقد أيّد نزول القرآن عليه(ص) بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن، ويؤيده قوله بعد {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ* وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الخ.
ويمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التامّ إليه تعالى عند وحي القرآن أو بعضه، كما في بعض الروايات ، فيكون رجوعاً إلى ما في صدر السورة من قوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] وذيل الآية أشد تأييداً لهذا الوجه من سابقه[1].
وقد يكون هذان الوجهان أقرب مما ذكره المفسرون، ولكن الآية لا تزال غامضة من هذه الجهة، في وجه ارتباط أوّل الآية بآخرها في نطاق هذه الجملة المعترضة، لا سيما بلحاظ اختلاف أسلوب التكلم عن أسلوب الغيبة في الحديث عن الله، مما لا يتضح لنا أمره، فليرد علمها إلى الله سبحانه.
* * *
نعم الله على بني إسرائيل
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يفتح لهم الطريق على رسالات الله التي تؤكد لهم إنسانيتهم المنفتحة على إنسانية الآخرين، ويدلهم على آفاق الحرية الواسعة التي يتحررون ـ من خلالها ـ من سيطرة الأقوياء المستكبرين، في داخل نفوسهم وخارجها، ويوجههم إلى الالتزام بوحدانية الله في مواقع العبادة والعقيدة وحركة المسؤولية، ويرفع مستواهم الفكري، في ما يربِّي عليه نفوسهم وعقولهم من الأخذ بأسباب العلم، والتأكيد على تحريك العقل في اكتشاف حقائق الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} من موقع القيادة الإيمانية على خط الرسالة المتحركة بالدعوة الهادية إلى الإيمان بالله والسير على منهاجه {لَمَّا صَبَرُواْ} على التحديات الكبيرة التي كانت تتحداهم في وجودهم، وفي تفاصيل حياتهم، وعمق قناعاتهم، بما كان يثيره الآخرون من الكافرين من شبهات وأضاليل أمامهم، فكان ردّ فعلهم أنهم تحملوا الآلام كلها، والمعاناة الصعبة القاسية التي أخذت الكثير من أوضاعهم المختلفة في نطاق الذات، وهكذا صبروا صبر الرساليين المؤمنين، وأثبتوا بهذا المصير أنهم في مستوى حمل الرسالة، وموقع الإِمامة، {وَكَانُواْ بَِايَاتِنَا يُوقِنُونَ} من قاعدة الحقيقة البارزة لهم في هذه الآيات، وبذلك كانوا الدعاة المصدّقين بدعوتهم، المؤمنين بخطوطها العامة والخاصة، لا كمثل الدعاة الذين يتاجرون بالدين وبالرسالة، من دون أن يؤمنوا بهما، ليحققوا مصالحهم الذاتية من خلالها.
* * *
يوم القيامة يوم الفصل
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فقد اختلف الكثيرون في الدين، وتنوّعت مذاهبهم في فهمه وفي تفاصيل موارده ومصادره، وتداخلت النوازع الذاتية، والمصالح المادية، والتعقيدات الشعورية والفكرية في هذه الساحة، فلم تصل إلى وحدةٍ في التصور، أو في الموقف، أو في الحركة، لاختلاط هذه الأمور كلها في أجواء الاختلاف. ولكن المسألة ستظهر جليّةً يوم القيامة، عندما يتدخل الله ـ سبحانه ـ بينهم، فيفصل بين المحق والمبطل، فيعرف المحق مواقع الحق في دعوته، كما يعرف المبطل مواقع الباطل في دعواه {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أولم يتبين لهم كيف تموت الأمم وتزول من الدنيا، وتترك خلفها الدور والقصور والأموال، التي يراها اللاحقون من بعدهم، ويمشون في ساحاتها الصامتة صمت القبور، ألا يكون ذلك راداً لهم عن الاستسلام إلى الدنيا والركون إليها والاستغراق في شهواتها والتنازع في سبيل الحصول على امتيازاتها وثرواتها، كما لو كانوا خالدين فيها؟
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} المواعظ التي جاءت بها الرسل مما يفتح قلوبهم على عمق المصير ونهاية الموقف.
* * *
الله يسوق الماء إلى الأرض الجرز
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ} وهي الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} عندما يمنحها الماء الحياة التي تهتز في البذور بقدرة الله {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} كل ما حولهم من ظواهر الحياة المتحركة، ليفهموا من ذلك كيف تتحرك قدرة الله في الكون، وكيف تنزل رحمته على عباده؟
* * *
متى يوم الفتح؟
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ}، قيل بأن المراد به يوم بدر، وقيل بأن المراد به فتح مكة، وقيل إن المراد به يوم القيامة، حيث يفصل الله بين الناس يوم القيامة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في ما يوجهونه من خطاب التحدي للمؤمنين الذين كانوا يحدثونهم عن يومٍ للنصر تظهر فيه الغلبة للمؤمنين على المشركين، فكان المشركون يستعجلونهم في ذلك على سبيل التحدي.
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} فإذا كنتم تنتظرونه من أجل أن تؤمنوا بعده، ليكون هو الأساس للإيمان عندكم، فإن الله لا يتقبّل الإيمان من الكافرين بعد ذلك، لأنهم لم يستمروا على الكفر من موقع حجةٍ على الكفر، بل من موقع عنادٍ فيه، ولذلك فإن العقاب سيحل بهم من دون إنظار ولا إمهال. والظاهر من سياق هذه الآية انسجامها مع سياق الآيات المتكررة التي تتحدث عن عدم انتفاع الكافر بإيمانه يوم القيامة، ما يوحي بأن المراد بيوم الفتح يوم القيامة، ولا تنسجم مع فكرة أنه يوم بدر، إذ لا معنى للحديث عن الإيمان بعد القتل، كما لا معنى لأن يكون المراد فتح مكة، لأن الإيمان مقبول بعد ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تضعف أمام تحدياتهم، لأن الله بالغ أمره في ما يخططه وما ينفذه، فلكل شيء وقته، ولكل أجل كتاب، وما على المؤمنين إلا أن يثقوا بوعد الله، وينتظروه بكل ثقة وصدق وإخلاص ، لأن الله لا يخلف وعده. فتوكل على الله وتابع مسيرتك في الدعوة إليه والجهاد في سبيله {وانتَظِر إنّهُم منْتَظِرُون} عندما يحين الوقت المحتوم، فسيكون اللقاء الأكبر بالله، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:16، ص:271.
تفسير القرآن