تفسير القرآن
الأحزاب / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 3

 سورة الأحزاب المقدمة + الآيات 1-3
 

سورة الأحزاب
مدنية: وهي ثلاث وسبعون آية

الآيــات

{يا أَيُّهَا النَّبِيِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِليْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (1ـ3).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول، أن هذه الآيات «نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي، قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبيّ بعد غزوة أحد بأمانٍ من رسول الله(ص) ليكلّموه، فقاموا وقام معهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فدخلوا على رسول الله(ص) فقالوا: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا الّلات والعزى ومنات، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، وأمر(ص) فأخرجوامن المدينة، ونزلت الآية: {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهل مكة، أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة، {وَالْمُنَافِقِينَ} ابن أبيّ وأبن سعد وطعمة»[1].

وإذا كنا نتحفظ في أسانيد أسباب النزول، فإننا لا ننطلق في تفسيرنا للآيات منها، بل نحاول استيحاء المعنى من ظاهرها، وعلى كل حالٍ، فإن هذه الأسباب ـ لو صحت ـ فإنها لا تعني تجميد الآية في دائرتها، بل تمثل نقطة الانطلاق للمعنى الشامل الذي يشمل كل المفردات المماثلة في الحياة كلها.

* * *

تحديد الخطوط العامة للدعاة في خط السير

ما هي الخطوط العامة التي يحدّدها الله لنبيّه وللمسلمين من خلاله ليسيروا عليها في التزامهم الإسلامي، ليحتفظوا لأنفسهم بالصفاء الروحي في العقيدة، وبالثبات العملي في الشريعة، وبالاستقامة على الطريقة الواضحة، والاستسلام الكامل لله والانفتاح عليه في كل شيء، والثقة برعايته وتدبيره وعنايته في كل الأمور؟

إنها الخطوط العامة التي قد يحتاج المسلم إلى أن يلتزمها في رحلته في الحياة إلى الله، في ساحة التحديات التي تحاول أن تهزّ قناعاته، وتزلزل مواقعه، وتبعده عن خطه، وتنحرف به عن أهدافه، لأن النفس قد تميل عن الحق بفعل الضغوط النفسية، التي تضغط بها الجماعات المنحرفة أو الظروف القاسية، ما يفرض على المسلم الملتزم أن يبحث عن العناصر التي تثبّته على الخط، وتستقيم به على الطريق.

هذا ما يمكن أن نستوحيه من هذه الآيات:

* * *

اتباع خط التقوى

{يا أَيُّهَا النَّبِيِّ اتَّقِ اللَّهَ} فهذا هو الخط الأوّل الذي يشمل كل تطلعات المسلم في الحياة، وكل مشاريعه وخطواته وعلاقاته مع الآخرين، كما يحدّد له طبيعة مشاعره وعواطفه وأفكاره وموقفه من ربه ومن نفسه.

إنه خط التقوى الذي ينطلق من الإحساس العميق الشامل الممتد في النفس بالحضور الإِلهي الذي يستولي على الوجود كله، فلا تحسّ بغيره، لأن حضور كل مخلوق مستمدٌّ من حضوره ودليلٌ عليه، لأنه السرُّ الأساس لوجوده.

وهذا هو الذي يوحي للإنسان بالرهبة الروحية والرقابة الذاتية الدائمة، عندما يلتفت إلى موقعه من الله ومسؤوليته أمامه، فيستسلم إليه استسلاماً كلياً يمتد إلى كل موقعٍ من مواقع حياته، ليكون صورة لما يرضى الله له.

وهكذا نجد أن كلمة التقوى تختصر الإسلام كله في جانبه العملي، كما تختصر كلمتا الإيمان والإسلام المعنى في صورته العقيدية والتصورية، فقد لا يكفي في الإنسان المسلم أن تكون تصوراته الذهنية أو الشعورية إسلاميةً، بل لا بد له من أن يملك الحركة الإرادية التي تحقق له الإسلام العملي في صورته الواقعية.

ومن هنا كانت التقوى تمثل الخط الأول في حركة الرسالة في شخصية المسلم، لأنها تختزن الإسلام الحياتي الذي يتحرك من قاعدته في الداخل إلى ساحته الواسعة في الخارج.

* * *

الهدف من الخطاب بالتقوى للنبي(ص)

وإذا كان الخطاب بالتقوى للنبي، وهو في قمّة الممارسة العملية للتقوى في تلك المرحلة من نزول الآية، فإن الهدف من ذلك يتحقق في خطين:

الخط الأول: تقديم النموذج الأعلى للتقوى، من خلال شخصية النبي(ص) التي وصلت في هذا الموقع إلى الدرجة العليا التي لا يقترب منها أحد، ليتطلع الناس إليها في دائرة الواقع، فيهتدوا بها ويقتدوها في حركتهم نحو الله.

الخط الثاني: الإِيحاء للأمة بأن الخطوط العامة في الإسلام، في ما شرّعه الله وأراده، ليست مقصورةً على الناس المسلمين في مخاطبتهم بالسير عليها، بل هي شاملةٌ للنبي قبل أن تشملهم، لأنه المسلم الأوّل في حركة الإيمان وخط العمل، ولهذا كان الأسلوب القرآني ينطلق في مخاطبة الأمة من خلال توجيه الخطاب للنبي للإيحاء بأن القمة والقاعدة سواءٌ في الالتزام بخط المسؤولية العامة في الإسلام، {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} وهذا هو الخط الثاني الذي يعالج الواقع الذي يحيط بالنبي، أو بالداعية، أو بالمسلم بشكل عام. فقد يعيش مشكلة ضغط القوى الكافرة في ساحته، أو فيما حوله من الساحات الضاغطة على ساحته، وقد يواجه مشاكل القوى المنافقة التي تعيش في داخل المجتمع فتربك الواقع من حوله.

وقد يطرح عليه هؤلاء أو هؤلاء بعض المشاريع التوفيقية التي قد تدعوه إلى تقديم بعض التنازلات لحساب خطهم العقيدي أو العملي، في مقابل أن يحصل على بعض الامتيازات لديهم، في ما يمنحونه من حرية الحركة في بعض المواقع، أو في ما يتنازلون له عن بعض المواقف، تماماً كما نلاحظه في بعض الأساليب التي يتخذها الكافرون والمنافقون في دعوتهم المسلمين إلى الاكتفاء بالجانب العقيدي والعبادي من إسلامهم، والانتماء إلى العقائد الأخرى في الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو تأييد شخصية كافرة أو منحرفة أو ظالمة، تحت تأثير بعض الخطوط السياسية التي قد تفرضها الظروف المحيطة بالواقع، أو غير ذلك من الأمور التي تدفع بالإسلام في حياة المسلم، إلى زاويةٍ ضيّقةٍ تحدَّد فيها كلّ مواقعه وتطلعاته، لتكون الساحات الكبرى في حياته لغير الإسلام، لينسحب المسلم تدريجياً من الإسلام عندما يعيش داخل أجواء الآخرين الذين يخططون لذلك من خلال وسائل الترغيب والترهيب.

ولهذا كان الرفض الإسلامي حاسماً في هذا المجال، في الامتناع عن طاعة الكافرين والمنافقين في كل مخططاتهم، لتأكيد الفواصل الفكرية والعملية فيما بين المسلمين وبينهم، وتوجيه المسلمين إلى السير في الخط المستقيم الذي لا مجال فيه إلا لطاعة الله وحده.

* * *

التحرك في الشعار من موقع الإسلام

وإذا كان البعض يتحدث عن موافقة الإسلام لبعض الاتجاهات الأخرى في هذا الموقع أو ذاك، فإن هذا لا يعني إطاعة الكافرين والمنافقين الذين يمثلونها، لأن معنى ذلك، هو أن الموقف إسلاميٌّ يتفق الآخرون فيه مع الإسلام، فتكون الطاعة فيه لله، والالتزام به من موقع الإسلام، لا من موقع الآخرين. وهذه النقطة جديرةٌ بالوعي والاهتمام، وهي أننا إذا اتفقنا ـ كمسلمين ـ في أيّ شعارٍ أو خطٍ سياسيّ أو فكري مع الآخرين، فإن علينا أن نتحرك في الشعار أو الخط من مواقعنا الإسلامية لا من مواقع الآخرين، وذلك بتأكيد الصفة الإسلامية في الحركة، والإِيحاء بالملامح التي تميز العنوان الإسلامي عن عناوينهم اللا إسلامية، لئلا تضيع المسألة في أجواء الوفاق.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فقد خطط لك الطريق من موقع علمه وحكمته في ما يصلح جمهور الناس كلهم والحياة كلها.

* * *

اتباع وحي الله والتوكل عليه

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهذا هو الخط الثالث الذي يمثل خط السير المستقيم الذي يؤكد البداية والنهاية وما بينهما، فللمسلم فكره الذي أوحى به الله، وشريعته التي جاء بها الرسول، ومنهجه الذي تحدث به القرآن، مما يتضمنه عنوان الإسلام في مضمونه العقيدي والحركي، فليس للمسلم أن ينحرف أو يبتعد عنه، بل لا بد له من أن يلتزمه بكل دقائقه وتفاصيله، لأن ذلك هو المعنى الدقيق للشخصية الإسلامية في ملامحها الواقعية.

وذلك هو الذي ينبغي أن يستشعره في داخل وعيه الإسلامي من خلال الإيمان بما أكدته الآية من اطلاع الله على كل ما يعمله الإنسان المسلم في كل حياته السرية والعلنية.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في كل أمورك، وتابع سيرك، بعد أن تُحكم كل أمرك، في ما تحتاجه من عوامل وعناصر وشروطٍ وظروفٍ، ولا تخف من تهاويل الأشباح المخيفة التي يثيرها الكافرون والمنافقون في طريقك، ولا تعش القلق من المستقبل عندما تواجهك احتمالات الخوف في آفاقه، فإن الله هو الذي يضمن لك الرعاية والحماية، في ما لا تملك معرفته أو السيطرة عليه، أو ما يمكن أن يفاجئك به الزمن، أو ما يمكن أن يختفي خلف الواقع المنظور. وتلك هي قصة الإيمان في المؤمن، أن تكون ثقته بالله هي القاعدة التي يرتكز عليها في ثقته بنفسه وبالحركة التي يتحركها، على أساس مواجهته لكل الاحتمالات من خلال جهده، ومن خلال التوكل على الله الذي يملك الأمر كله في السماوات والأرض، ويملك حركة عباده، وهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء.

{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} فلا يحتاج الإنسان المؤمن إلى وكيلٍ آخر يرعى أموره ويدبر حياته إذا اعتمد على الله، لأنه وحده القادر على كل شيء.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، م:4، ص:434.