من الآية 4 الى الآية 5
الآيتـان
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل* ادْعُوهُمْ لاَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (4ـ5).
* * *
معاني المفردات
{تُظَاهِرُونَ}: يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهّر: أن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي، وكان يعد طلاقاً في الجاهلية.
{أَدْعِيَآءَكُمْ}: جمع دعيّ: وهو المتخذ ولداً، أي الذي يتبناه الإنسان.
* * *
إلغاء القرآن لبعض التشريعات الجاهلية
{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} فلكل رجلٍ قلبٌ واحد، يتوحد فيه التصور والشعور والانتماء والالتزام، فلا مجال لأن يجتمع فيه في محل واحد وزمان واحد ومن جهة واحدة، تصوران أو شعوران متقابلان كالتوحيد والشرك، أو كحب الله وحب الشيطان، وحب أوليائه وحب أعدائه، ولا لالتزامين متباينين، كالالتزام بشريعة الله والالتزام بشريعة غير الله. ولهذا كانت مسألة طاعة الله. في ما يلتزم به المسلم في خط الإيمان، لا تتناسب مع طاعة الكافرين والمنافقين، في ما يرفضه المسلم من خط الكفر والنفاق، فلا يجتمعان في التزاماته القلبية، كما لا يلتقيان في ممارساته العملية.
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الفقرة من الآية «توطئه وتمهيداً، كالتعليل لما يتلوها من إلغاء أمر الظهار والتبني، فإن في الظهار جعل الزوجة بمنزلة الأم، وفي التبني والادّعاء جعل ولد الغير ولداً لنفسه، والجمع بين الزوجية والأمومة، وكذا الجمع بين بنوّة الغير وبنوّة نفسه، جمعٌ بين المتنافيين ولا يجتمعان إلا في قلبين، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه»[1]. والظاهر أن التفسير الأول أقرب إلى الجوّ من هذا التفسير، والله العالم.
* * *
ما جعل أزواجكم أمهاتكم
{وَمَا جَعَلَ أَزْاَجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} وهذا هو الخط التشريعي الذي واجه به الإسلام العادة الجاهلية السائدة قبل الإسلام في مسألة الظهار، فقد كان الرجل في الجاهلية يقول لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو ظهرك عليّ كظهر أمي، فتحرم عليه، أو تجمّد وضعها معه، بحيث تبقى معلّقةً، فلا هي متزوّجة منه لامتناعه عن مواقعتها، ولا هي مطلقة لبقاء العلاقة التـي تمنعها من إنشاء علاقة مع إنسان آخر، حسب اختلاف النقل عن خصوصية هذه العادة.
وقد انطلق التشريع الإسلامي من طبيعة الرفض للمنطق الذي عبّر به الجاهلون عن فسخ العلاقة الزوجية أو تجميدها، وهو اعتبار الزوجة بمنزلة الأم، ما يجعل حكمها حكم الأم في التحريم، بطريقة ملزمةٍ لا مجال للرخصة فيها، تماماً كما لا مجال للرخصة في موضوع الأم، ولكن الكلمة لا تغير حقائق الأشياء، فللأم معناها في ما هي العلاقة النسبية، وللتحريم عمقه في ما هي الأسرة في العلاقات الإنسانية وطبيعة الأنظمة التحريمية أو التحليلية فيها من حيث ارتباطها بخصوصيات الأشخاص الذين يتحركون في داخلها، ومن حيث الفكرة العامة التي تحكمها في تنظيم الخطوط العامة والخاصة التي تحكم كل مجالاتها.
ولهذا فإن للزوج أن يجمّد علاقته بزوجته أو يلغيها، ولكن لا بد له من أن يعبِّر عن ذلك بطريقةٍ مباشرةٍ، مثل كلمة الطلاق ونحوها، مما ينسجم مع طبيعة الأشياء، تماماً كأيّة علاقةٍ إنسانيةٍ أخرى ذات خصائص معينة، في ما يُراد لها من اتصال وانفصال، وليس له أن يعبِّر عنها بهذه الطريقة التي تسيء لسلامة التصور في تمييز العلاقات عن بعضها البعض، مما لا يملك الإنسان أمر تحريك الالتزام التشريعي في حياته على أساسه، فلا حق له أن يمتنع عن العلاقة بزوجته بعنوان أنها كأمّه، ليعاملها ـ في دائرة الممارسة ـ بما يعامل به أمّه، لأن مسألة الأم شيء، ومسألة الزوجة شيء آخر، فالتحريم في الأم متصلٌ بالجانب الذاتي الثابت الذي لا يمكن تحريكه في اتجاه آخر من خلال عمق الخصوصية التي يستند إليها التشريع في جانبه الشعوري وفي جانبه الاجتماعي، بينما التحريم في الزوجة ـ في حال الانفصال ـ أمر متحرك في دائرة الالتزام بالعلاقة أو الالتزام بإلغائها، ما يجعل من الخلط بينهما خلطاً في التصور وخللاً في إدارة العلاقات، وسيجيء الحديث عن التشريع الإسلامي بتفاصيله في سورة المجادلة إن شاء الله.
* * *
ما جعل أدعياءكم أبناءكم
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} والدّعي هو ولد الغير الذي يتخذه الإنسان ابناً له، فينسبه إلى نفسه ويتبناه، وقد كان هذا من العادات الجاهلية التي تدخل في النظام العام للعلاقات النسبية، الذي يجعل للولد المتبنَّى حقاً على أبيه المدّعى، تماماً كما هي حقوق الابن الذي هو من صلبه، في عملية التوارث، وحمل المسؤولية العامة والخاصة، في ما يخضع الناس له من نظام المسؤوليات في علاقاتهم ببعضهم البعض.
وقد نقلت كتب السيرة النبوية الشريفة في أجواء نزول هذه الآية، أن رسول الله(ص) كان قد تبنى زيد بن حارثة، قبل الإسلام، وذلك في ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله «جعفر الصادق(ع)» قال: كان سبب ذلك أن رسول الله(ص) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارةٍ، ورأى زيداً يباع ورآه كان غلاماً كيِّساً حصيناً، فاشتراه، فلما نبِّىء رسول الله(ص) دعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان يدعى زيداً مولى محمد.
فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلاً جليلاً، فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك، تسأله إمّا أن يبيعه، وإمّا أن يفاديه، وإما أن يعتقه، فكلّم أبو طالب رسول الله(ص) فقال رسول الله: هو حرٌّ فليذهب حيث شاء، فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني، الحق بشرفك ونسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبداً لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حياً، فغضب أبوه، فقال: يا معشر قريش، اشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني، فقال رسول الله(ص): اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد وكان رسول الله(ص) يحبه، وسماه زيد الحب[2].
ولم يقتصر الأمر على الجاهليين، بل امتدّ هذا النظام إلى كثير من الشعوب المتمدنة القديمة والحديثة، بإعطاء الولد المتبنَّى كل حقوق الولد الصلبي.
وقد عالج الإسلام هذه المسألة بالطريقة نفسها التي عالج بها مسألة الظهار، فإن الادّعاء لا يغيّر شيئاً من حقائق الواقع، لأن البنوّة تعني انتماء الشخص إلى شخصٍ آخر، من خلال خروجه من صلبه بالطريقة التناسلية كحقيقةٍ وجودية تدخل في نظام الأسرة في دائرة الحقوق والواجبات.
وإذا كان هناك بعض الأوضاع الاجتماعية المتصلة بحاجة المحرومين من الأبوة، أو المحرومات من الأمومة، إلى أن يعيشوا هذه المشاعر الحميمة، بفعل الفراغ الهائل الذي يأكل سعادتهم، ويثير فيهم أحاسيس الحزن والضياع، فإن هناك فرصةً كبيرة لتحقيق الرغبة الداخلية بالتبني التربوي الذي يتكفلون فيه ببعض الأيتام، أو اللقطاء، أو أبناء بعض الناس من ذوي الدخل المحدود، بالإشراف على رعايتهم وتربيتهم وتقديم كل الفرص والإمكانيات التي تخلصهم من الفقر والمرض والحرمان، وإغداق كل مشاعر العطف والحنان عليهم، ما يحقق للمحرومين من الود ما يريدونه من ملء الفراغ العاطفي، وللمحرومين من الإمكانات المالية ونحوها، ما يكفل لهم السعادة من هذا الجانب، من دون الإساءة إلى حقيقة الواقع أو تبديل طبيعة المواقع في مسألة النسب، أو اللعب على قضية النظام التشريعي في هذا المجال.
وربّما تحدث بعض السلبيات العاطفية لدى الولد المتبنَّى عندما يكتشف في نهاية المطاف الزيف الذي كان يعيش فيه في اعتقاده بأن هذا الرجل أبوه، وبأن هذه المرأة أمّه، عندما يوحي إليه بعض الناس بالحقيقة، أو يكتشفها بنفسه، فتنشأ عنده أزمةٌ نفسيةٌ عنيفةٌ حائرةٌ بين الأب والأم الأصليين وبين الأب والأم الادّعائيين، ما يخلق مشكلةً صعبةً على أكثر من صعيد.
* * *
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ} في ما تدّعونه من الأبوّة لهؤلاء الأولاد، إنها مجرد كلمة لا تعبّر عن الحقيقة الأصلية ولا تحقق أيّة نتيجةٍ على مستوى التشريع، لأن الله هو الأساس في المسألة التشريعية.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} الذي يطابق الواقع في ما يختزن من المصلحة الثابتة في داخله {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل} في ما يشرّعه من نظام لخدمة الإنسان، كنظام الأُسرة الذي يكفل للناس سعادتهم، فالتزموا قوله وهداه، واتركوا كل أقاويل الكذب والضلال التي تربك الحياة من حولكم.
{ادْعُوهُمْ لاَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} وأقرب للعدل، لأن ذلك يمثل التوازن بين معنى الكلمة وحقيقة الأشياء، {فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ} أي إذا جهلتم آباءهم ولم تعرفوهم بأعيانهم وأسمائهم، سواء كانوا من اللقطاء أو من غيرهم، فادعوهم باسم الأخوة الدينية والولاية الإسلامية، ليكون الدين عنوان العلاقة في مواقع الجهل بالنسب.
وقد تشير هذه الفقرة من الآية إلى أن الجهل بالنسب في بعض الأولاد لا يوحي للمجتمع بالعقدة منهم في إقامة العلاقات الحميمة أو الاجتماعية في المستوى الإنساني الذي يحترم فيه الإنسان الإنسان من موقع إنسانيته، بل يوحي بالارتباط العميق القائم على الرابطة الدينية، باعتبارها الروحي الذي يؤكد العلاقة الوثيقة التي تشد هذا الإنسان المجهول النسب بالمجتمع الإسلامي من موقع الاحترام.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} من الكلمات الصادرة عن السهو أو النسيان، أو الخطأ في تقييم الأمور عن غير قصد {وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} في ما تتخذونه في عقولكم من القيم الخاطئة، والأحكام الباطلة. فالقضية التي يريد الله أن يثيرها لدى الإنسان كقيمةٍ من القيم الدينية، هي أن لا يعقد قلبه على خطأ في الفكرة أو في المنهج أو في التشريع، لأن الخطأ في الكلمة قد يغتفر إذا صدر عن غير قصد، ولكن الخطأ في الفكرة أو في الخط عن قصدٍ أو تقصيرٍ، قد يخلق أكثر من مشكلةٍ للإنسان وللحياة، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} في ما أخطأ به الناس عن غير قصد.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:16، ص:280.
(2) تفسير الميزان، ج:16، ص:287.
تفسير القرآن