تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 7 إلى الآية 8

 من الآية 7 الى الآية 8

الآيتـان

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً* لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} (7ـ8).

* * *

النبوة ميثاق بين الله وبين أنبيائه

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فلم تكن النبوّة امتيازاً ذاتياً يمنحه الله لبعض الناس من خلال التشريف الشخصي، بل هو عهد بينهم وبين الله بأن يتحملوا مسؤولية الدعوة إليه، ويخلصوا في التزامهم بالمسؤوليات التفصيلية في ما يستلزمه ذلك من عذابٍ واضطهادٍ وآلامٍ ومشاكل وصبرٍ على ذلك كله، وانفتاحٍ على الناس من الباب الواسع من خلال الكلمة الطيبة والأسلوب الطيب والموعظة الحسنة.

وقد خص الله نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام، لأنهم يتميزون في رسالاتهم بالشمول الذي لا يملكه الآخرون، كما يملكون الامتداد الزمني في امتداد الرسالة إلى آمادٍ بعيدة {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً} فهو من نوع المواثيق القوية المؤكدة التي تحتاج إلى كثير من الجهد والرعاية والعناية بالالتزام الفكري والعملي، للوصول إلى النتائج الكبيرة في هذا الخط الطويل.

* * *

سؤال الصادقين عن صدقهم

{لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} في ما قاموا به من الدعوة إليه، والتأكيد عليه، والجهاد في سبيله، من خلال مسؤولية الأنبياء عن الصدق الذي جاؤوا به، كما يسأل الذين اتّبعوا الأنبياء في هذا الصدق، عن إيمانهم به والتزامهم بنتائجه وانفتاحهم عليه بكل فكرهم وجهدهم ودعوتهم إليه.

وقد عبر الله عن الرسالة بالصدق في حديثه عن النبي محمد(ص) في قوله: {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33].

{وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} الذين كذبوا بالرسالات وانحرفوا عن خط الصدق وتمردوا عليه {عَذَاباً أَلِيماً} لأنهم لم ينطلقوا في ذلك من موقع حجةٍ أو شبهةٍ، بل من موقع عنادٍ وتمرّد.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الآيتين

وقد ذكر في تفسير الميزان وجهاً آخر في تفسير الآية فقال: «فرقٌ بين قولنا: سألت الغني عن غناه، وسألت العالم عن علمه، وبين قولنا: سألت زيداً عن ماله أو عن علمه، فالمتبادر من الأولين أني طالبته أن يظهر غناه وأن يظهر علمه، ومن الأخيرين أني طالبته أن يخبرني هل له مال أو هل له علم أو يصف لي ما له من المال أو من العلم.

وعلى هذا، فمعنى سؤال الصادقين عن صدقهم، مطالبتهم أن يظهروا ما في باطنهم من الصدق في مرتبة القول والفعل، وهو عملهم الصالح في الدنيا. فالمراد بسؤال الصادقين عن صدقهم توجيه التكليف على حسب الميثاق إليهم، ليظهر منهم صدقهم المستبطن في نفوسهم، وهذا في الدنيا لا في الآخرة، فأخذ الميثاق في نشأة أخرى قبل الدنيا كما تدل عليه آياته الذر {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172].

وبالجملة، الآيتان من الآيات المنبئة عن عالم الذر المأخوذ فيه الميثاق، ونذكر أن أخذ الميثاق من الأنبياء(ع) وترتب شأنهم وعملهم في الدنيا على ذلك، في ضمن ترتب صدق كل صادقٍ على الميثاق المأخوذ منه.

ولمكان هذا التعميم، ذكر عاقبة أمر الكافرين، مع أنهم ليسوا من قبيل النبيين، والكلام في الميثاق المأخوذ منهم، فكأنه قيل: أخذنا ميثاقاً غليظاً من النبيين أن تتفق كلمتهم على دينٍ واحدٍ يبلغونه ليسأل الصادقين ويطالبهم بالتكليف والهداية، إظهار صدقهم في الاعتقاد والعمل ففعلوا، فقدّر لهم الثواب {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً}[1].

ولكننا لا نجد للآيتين أيّ ظهور في ما ذكره، لا سيما في ما استنتجه من اعتبارهما من آيات عالم الذر، لأن الفرق الذي تحدث عنه بين التعبيرين لا أساس له، فإن من الممكن أن يريد بكل من الكلمتين ما يريد بالأخرى، كما أن الآية ظاهرة في الحديث عن ميثاق النبوة التي ذكرنا أن الله عبّر عنها بالصدق في آية أخرى، مما لا يتناسب مع الحديث عن عالم الذر. وهكذا نرى أن هذا التفسير لا يخلو من الكثير من التكلف والبعد عن ظهور الآية، والله العالم.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:16، ص:285ـ286.