من الآية 12 الى الآية 20
الآيــات
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً* وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً* وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤولاً* قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً* قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* يَحْسَبُونَ الاَْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاَْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الاَْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} (12ـ20).
* * *
معاني المفردات
{بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: أي فيها خلل، لا يأمن صاحبها دخول السارق وزحف العدو.
{تَلَبَّثُواْ}: التلبث: التأخر.
{الْمُعَوِّقِينَ}: الذين يعوقون غيرهم ويثبطونهم ويشغلونهم لينصرفوا عن الجهاد مع الرسول(ص).
{الْبَأْسَ}: الشدّة والحرب.
{أَشِحَّةً}: جمع شحيح، بمعنى البخيل.
{سَلَقُوكُم}: آذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سليطة.
{بَادُونَ}: خارجون من المدينة إلى البدو.
* * *
حرب المنافقين النفسية ضد المسلمين
ما هو منطق المنافقين، الذين كان دورهم في المجتمع الإسلامي إثارة القلق والارتباك والريبة والفتنة، وإشاعة الذعر والخوف في النفوس؟
وما هو منطق الذين دخلوا في الإسلام دخولاً يشوبه التحفظ، ويحيط به القلق، فلم يكن الإيمان قوياً في قلوبهم، بل كان هناك ضعف يدفع إلى الاهتزاز عند كل حادثٍ بارز من الأحداث الخطرة التي تواجه المسلمين؟
* * *
منطق المنافقين المشكك
لقد كان منطقهم في البداية أن يثيروا التشكيك في وعد الله ورسوله المسلمين بالقوّة والنصر في مستقبلهم، ليجعلوا من هذا الحصار الشديد منطلقاً للإيحاء بعدم جدّية تلك الوعود وصدقها، لأن المسلمين الذين يعيشون مثل هذه الهجمة القاسية التي تعمل على القضاء على كل وجودهم، لا يمكن لهم أن يأملوا بالنصر القويّ المهيمن على الساحة كلها.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} فقد كان محمد يعدنا بأن نفتح مدائن كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.
{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} ـ يثرب هو اسم المدينة ـ لأن المشركين سوف يقتحمونها ويقتلون أهلها ويصادرون أموالهم {فَارْجِعُوا} إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله، ليراكم المشركون بعيدين عن ساحة المعركة فيؤمنوكم، وقيل: قالوا لهم ارجعوا كفاراً وسالموا محمداً وإلا فليست يثرب لكم بمكان. وهكذا كانت المسألة عندهم، أن يثيروا الخوف في قلوب أهل المدينة من أجل خلخلة الوضع الداخلي في اتجاه الهزيمة النفسية في معسكر النبي(ص) ليسهل على المشركين اقتحام المدينة من دون مقاومة.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ} للخروج من المعسكر ليبتعدوا عن الإِحراج الذاتي والاجتماعي الذي قد يقعون فيه عندما يمتنعون عن المشاركة في المعركة، في ما يريدونه من الابتعاد عنها، فيعملون لإِيجاد المبررات الواقعية للخروج، ليكون خروجهم عن إذنٍ شرعيٍ من النبي، حتى لا يطالبهم أحد بذلك بعد انتهاء المعركة، أو يعاقبهم النبي على الفرار {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة} فهي معرّضة للعدو، مفتوحة للسارقين، فأئذن لنا يا رسول الله، لنرجع إليها لنحصنها لتمتنع على العدو ثم نرجع إليك بعد ذلك {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} فليس فيها هذا الخلل الذي يدّعونه {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} من المعركة، من خلال هذه الحجة الكاذبة التي يتخففون فيها من الإحراج أمام النبي والمسلمين.
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} المدينة {مِّنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميع جوانبها في ما كان يخاف من دخول المشركين عليها وسيطرتهم على مواقعها، وهجومهم على بيوتها، وملاحقتهم لأهلها، {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ} والردة عن الدين والانتقال إلى جانب المنتصرين لقتال المسلمين {لاََتَوْهَا} ـ الفتنة ـ أي جاؤوا إليها، أو لأعطوها باختيارهم لأنهم لا يعيشون عمق الانتماء إلى الإسلام وثبات الإيمان به والإخلاص لله ورسوله، بل قد يضمرون بدلاً من ذلك الكفر أو البغض للإسلام وللمسلمين، ما يجعل من مسألة انتقالهم إلى العدو مسألةً تبحث عن المبرّر العملي الذي ينتهزون من خلاله بعض الفرص الموجودة في داخل الواقع الذي يعيشون فيه.
{وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً} أي لم يتوقفوا لأخذ مهلة للتفكير الذي يعيدون فيه النظر، أو يتأملون في دراسة الموقف، قبل الارتداد والانتقال إلى الجانب الآخر، بل يبادرون إلى الاندفاع نحو اللقاء مع العدو بسرعة. وربما تفسَّر الفقرة بأن ذلك لن يُفيدهم في ما يريدونه من الحصول على النجاة، لأن الله سيهلكهم بعد ذلك بمدة يسيرة، في ما يأخذ به المنافقين من عذابه في الدنيا قبل الآخرة.
{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} في ما ألزموا به أنفسهم من الإخلاص لله ورسوله بأن يمنعوا النبي مما يمنعون به أنفسهم، وأن لا يفرّوا مهما كانت النتائج {لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَارَ} في خط المواجهة للعدو {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤولاً} لأن الله أراد للمسلمين أن يوفوا بعهودهم ولا ينقضوها، لأن الكلمة التي تعبر عن الالتزام الداخلي، تفرض على صاحبها ـ من موقع الإيمان ـ أن يجعلها قانوناً شرعياً يلتزم به كما يلتزم بالأوامر الصادرة عن الله ورسوله.
* * *
لا عاصم من الله
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} لأنكم لا تملكون أيّة ضمانةٍ للبقاء بعد ذلك، فإن الأعمار بيد الله، فقد تهربون من الموت في مكان، ثم يلاقيكم في المكان الذي تهربون إليه، {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} من الوقت الذي تحصلون على الحياة فيه، وربما لا تجدون فرصةً لذلك، {قُلْ مَن ذَا الَّذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} فماذا تملكون من القدرة الذاتية التي تستطيعون فيها إدارة أموركم في ما تتفادونه من الشرّ، أو ما تحصلون عليه من الخير، وهل يملك أحد منكم شيئاً من ذلك، من دون الله الذي هو وحده الذي يملك النفع أو الضرر؟!
والظاهر أن كلمة «يعصمكم» تتضمن معنى كلمة «يمنعكم» أو «يحميكم»، لأن المعنى الحرفي المتبادر منها لا يتناسب إلا مع المعنى المتصل بالسوء لا بالرحمة.
{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} عندما تنطلق إرادة الله في إهلاكهم أو في إنزال العقوبة بهم، ما يجعلهم يهربون من الله إليه.
* * *
المنافقون أشحّة على المؤمنين وعلى الخير
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} الذين يثبّطون الناس عن الخروج مع رسول الله ليعيقوا مسيرته في المواجهة الحاسمة للمشركين {وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي تعالوا إلينا لتجدوا عندنا الأمن والطمأنينة والراحة والدعة والحماية، يقولون هذا، كما لو كانوا يمثلون الضمانة لهم، ويضمنون السلامة لمصيرهم، {وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهم الجبناء الذين لا يدخلون الحرب إذا أقبلت على الساحة وهجمت عليهم، إلا بالمقدار الذي يُثبتون به وجودهم من دون مشاركة، لإِيهام المؤمنين بأنهم معهم، ثم ينكفئون إلى مواقعهم في عملية هروب سريع، {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بنفوسهم، وبكل ما تحتاجون إليه منهم، لأنهم لا يعيشون الانفتاح على الإسلام والمسلمين، فلا يتحسسون روحية العطاء تجاههم، فيبخلون من خلال الضيق النفسي الحاقد الذي ينكمش ويتقلّص ويتعقّد في الدائرة المغلقة، {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ} في أجواء القتال التي تنذر بالخطر وتوحي بالمواجهة، {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} نظرةً حائرةً متوسلةً، لا ثبات فيها ولا تركيز {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} فلا تستقر في مكان من خلال الرعب {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} عندما يعيش في سكراته، فيحس بالحاجة إلى أيّ شيء يلوذ به وينقذه. ولكن هذه الحالة لا تدفعهم إلى الانجذاب الروحي نحو الهداية، وإلى التفكير بالعاقبة في ما تفرضه من خط الالتزام، وإلى الدخول إلى المجتمع الإسلامي، كعناصر حيّةٍ فاعلةٍ مؤمنة، بل يبقى تأثير هذا الجو، في حجم الحالة الطارئة، التي يزول أثرها عندما تزول {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فوجّهوا إلى النبي والمؤمنين الكلام الحادّ السليط الذي لا يرتكز على قاعدةٍ، ولا يخضع لحقّ، انطلاقاً من حقدهم وغرورهم ونفاقهم الذي يوزع مواقفه على مصالحه وشهواته.
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} فإذا جاءت الغنيمة ـ وهي الخير ـ وبدأت القسمة، اندفعوا إليكم ليأخذوا حصةً منها على أساس أنهم شركاء معكم فيها، لأنهم شاركوا بعض الشيء في تواجدهم في ساحة الحرب. فهم في الوقت الذي كانوا أشحةً عليكم، فلا ينصرونكم ولا يعينونكم بشيء ، يتحوّلون إلى أن يكونوا الأشحة على حصتهم من الخير الذي يرزقونه من غنائم الحرب.
* * *
المنافقون أعمالهم محبطة
{أوْلئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} لأن الإيمان ليس مجرد كلمةٍ تقال، بل هو عقيدةٌ تتعمق في الفكر والشعور والوجدان، وموقفٌ ينفتح على قضايا الإنسان في دائرة الإيمان والرسالة، في ما يتحدى به الآخرين الذين يريدون أن يُسقطوا قاعدته ويهزموا دوره أو في ما يردُّ به تحدياتهم في حركة الصراع.
{فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} لأن النتائج الروحية التي يستحق بها ثواب الله على العمل منطلقةً من قاعدة الإيمان التي يرتكز عليها، فإذا انتفى الإيمان انتفت تلك النتائج في ما يستحقه المكلف على ربه، ولهذا كان إسقاط الأعمال وإحباطها، لا يعني الإبطال بعد الاستحقاق، بل يعني عدم الاستحقاق من الأساس.
{يَحْسَبُونَ الاَْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} فهم لا يزالون تحت تأثير الصدمة الكبرى من الخوف الذي هزّ أعماقهم، وأذهل عقولهم، وأسقط مواقعهم، ولذلك كان الهاجس الذي يسيطر على أذهانهم، أنَّ جنود المشركين لا يزالون يحاصرون المدينة، على أساس أنهم باقون حتى يحققوا الانتصار على المسلمين، لأنهم لا يصدِّقون أنَّ من الممكن أن ينهزم المشركون أمام المسلمين.
{وَإِن يَأْتِ الاَْحْزَابُ} مرةً ثانية {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الاَْعْرَابِ} أي خارجون في البادية مع أعرابها {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ} ليعرفوا ماذا حدث لكم من هزيمة أو نصر، بعد أن ضمنوا لأنفسهم الأمان، ما يجعل منه سؤال الاسترخاء الذي يبحث عن المعرفة من موقع الفضول لا من موقع الاهتمام الذاتي العميق الذي يدفعهم إلى الاندماج الشعوري في مسؤولية المجتمع الذي يتحول إلى اندماجٍ عمليٍّ في مواجهة التحديات الموجهة إليه.
{وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} في داخل المجتمع الإسلامي، ما تحمَّلوا أيَّة مسؤوليةٍ في الدفاع عنكم و{مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} في ما يمكن أن يرفع العتب ويخفّف الإحراج ولا يغني عن شيء.
تفسير القرآن