تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 21 إلى الآية 25

 من الآية 21 الى الآية 25
 

الآيــات

{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً* وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً* مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً* لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً* وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (21ـ25).

* * *

معاني المفردات

{أُسْوَةٌ}: قدوة.

{نَحْبَهُ}: النحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه: أي وفى بنذره، ويعبّر بذلك عمّن مات وهو المراد هنا.

* * *

الرسول قدوة المسلمين

{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي قدوة حسنة في ما يأخذ به أو يدعه من الأفعال والمواقف، لأنه الإنسان الذي تتمثل فيه الصفات المثلى للكمال الإنساني، فقد ربّاه الله التربية الفضلى وأدّبه الأدب العظيم، وصاغ شخصيته أفضل صياغة. وبهذا كان التجسيد الحي للإسلام في كل ملامح ذاته في الجانب الداخلي منها، في ما يحمله في فكره وقلبه وشعوره من طهر الفكرة، ونقاء القلب، وصدق الشعور، وإخلاص النيّة، وفي الجانب الخارجي منها، من الإخلاص لله والعمل بطاعته، والجهاد في سبيله، والإحسان إلى الناس، والصدق في الدعوة، والصبر على آلامها، والانفتاح على الحياة كلها من موقع الرسالة الباحثة عن الخير في كل صعيد، وعن الحق في كل أفق، وعن العدل في كل مجتمع، لتؤكد القيم الأخلاقية الإنسانية الروحية من خلال المعاناة، وليكون رضاه في ما يرضاه الله، وسخطه في ما لا يرضيه، ما جعل عمله سنّةً وشريعةً، كما كان قوله مصدراً لذلك.

وهذا هو الذي خاطب الله به المسلمين الذين كانوا معه، ليعتبروه أساساً لسلوكهم الإيماني وخطهم الإسلامي، بأن يتطلعوا إليه ليرصدوه في كل عمله، لتكون صورتهم صورته، يتأسّون به، ويقتدون به في مواقفه وسجاياه.

وتلك هي ميزة الرسل في شخصيتهم النبويّة، أنهم لا يمثلون الرسالة في الكلمة فقط، بل يجسِّدونها في الموقف، فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع، كما يسمعونها في الكلمة. وقد كان رسول الله إسلاماً يتحرك على الأرض، فيفهمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها من قوله، ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال، بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من شخصية الداعية.

وقد رأى بعض العلماء في هذه الآية إيحاءً بعصمة الرسول(ص)، لأن الله لا يجعل إنساناً قدوةً مطلقة في كل عمله إلا إذا كان عمله صورةً للحق، ومطابقاً للصواب.

وهكذا كانت هذه الآية خطاباً للمسلمين الذين كانوا يجتمعون حول الرسول ويتصرفون بحرّية الذات المشدودة إلى مزاجها، الباحثة عن رغباتها، الغارقة في شهواتها، بعيداً عن المسؤولية في خط الرسالة، وبعيداً عن الجهاد في سبيل الله، فيهربون عندما تبدو أمامهم مواقع الخطر، ويسقطون أمام تحديات العدو.

إنها تريد أن تشدّهم إلى صورة النبي محمد(ص) في ثباته في جهاده، وإخلاصه لربه وقوته في مواجهة العدو، واستهانته بالأخطار المحدقة به، وفي موقفه الصابر في معركة الأحزاب، عندما كان يشجع المسلمين على الثبات، ويشاركهم في حفر الخندق، ويشدّ حجر المجاعة على بطنه، ويبقى في خط التقدم الأوّل، حتى لا يكون أحدٌ أقرب إلى العدوِّ منه.

إنها تريد أن تقدِّم لهم هذه الصورة؛ النموذج الأعلى للإنسان الرسالي الثابت في خط الرسالة، المتحدي في مواجهة العدوّ، ليزدادوا قوّةً بقوته، وليأخذوا الإخلاص من إخلاصه، حتى يكونوا في مستوى التحديات الكبيرة في المعركة، ليكون لهم النصر من خلال هذا الموقف الحاسم القويّ في مواقع الإيمان.

إنه خط القيادة القدوة الذي تسير فيه القاعدة الجماهيرية من الأمة، ولكن الذين يلتزمونه، هم الذين انفتحت قلوبهم على الإيمان بالله، وعاشوا الإخلاص له، ورغبوا في ثوابه، وخافوا من عقابه، وذكروه في السرّ والعلانية، فلم يغب عن أفكارهم، ولا عن ألسنتهم، لأنهم وحدهم الذين يفهمون معنى الرسالة في معناه، وسرّ الإيمان في سره.

{لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} ويرغب في رضاه، ويهتدي بهداه، ويقتدي برسله {وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} فكان معه في كل أحواله، حتى لم يغفل عنه في أيّة لحظة، في كل مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاناة.

وهكذا كانت هذه الصورة، هي صورة المؤمنين الملتزمين المخلصين الذين صدّقوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله من موقع الصدق، لم يخالطهم شكٌ أو ريبٌ في ما هم فيه، ولم تعرض لهم شبهةٌ في ذلك كله.

* * *

الموقف الثابت للمسلمين في خط الإيمان

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ} وواجهوا البلاء الشديد من خلال هذه الهجمة الكافرة التي تجمعت من كل مواقع الشرك ومعاقله، {قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} في ما حدثهم به النبي أو وعدهم به، من أن الكافرين والمشركين سينطلقون إلى حربهم، وسيحاولون أن يستأصلوهم، وفي ما أنزل الله على رسوله من ذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب} [البقرة:214].

{وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فقد رأوا الصدق في هذا الجوّ العاصف من العداوة والبغضاء، الذي يحيط بهم، وفي هذه الحشود الكثيرة من الأعداء التي تحدق بهم، فأعلنوا اعترافهم به وإيمانهم به {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً} لأن ثقة المؤمنين بالله وبرسوله لا تتزلزل ولا تتزعزع أمام المشاكل التي تواجههم، والتحديات التي تتحداهم، لأنهم يعرفون أنَّ الله لا يخذل عباده المؤمنين، مهما طال الزمن واشتدّ البلاء، فلا بد من أن تأتي العافية بعد البلاء، والرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر. وهكذا سلّموا أمرهم لله، وواجهوا العدوّ من موقع واحد، حتى انتصروا عليه بمعونة الله وبرعايته وبنصره.

* * *

من المؤمنين رجال صادقوا العهد

{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} فلم يكن عهدهم كلمةً في اللسان، يمكن أن تنطلق من هنا لتتبخر في الهواء، فلا تثبت في موقع المعاناة، بل كان عهدهم التزاماً في العقل والعاطفة والسلوك مما يتطابق فيه القول والفعل، فلا مجال لأيّة ثغرةٍ فيما بينهما، مما يمكن أن ينفذ إليه الباطل، {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} فمات في سبيل الله، فكانت نهايته في هذا الموقع دلالةً على صدقه، {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الشهادة أو النصر في المعارك المقبلة التي ينتظرها المجاهدون ليشاركوا فيها وليؤكدوا عهدهم لله في مواقفها {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} لأنهم الثابتون الذين تمتد جذور مواقفهم الإيمانية في أعماق الالتزام الذي لا تزيده التحديات إلا قوّةً وصلابة وإصراراً على الثبات مع الحق المنفتح على الله في موقف لا مجال معه لأيّ تغييرٍ في الموقف أو تبديل في خط السير، {لِّيَجْزيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} في ما يفيض عليهم من لطفه ورحمته وما يمنحهم من رضوانه ويدخلهم في جنته. وهؤلاء هم المؤمنون الذين ثبتوا مع الرسول في حالة الشدّة، والتزموا بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه في أوضاع الزلزال، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ} لهم العذاب إذا لم يتوبوا، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} في ما يمكن أن يشملهم من رحمته، إذا أنابوا إليه وتابوا من ذنوبهم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فلا يمنع أحداً من رحمته ومغفرته، ممّن تتسع له الرحمة والمغفرة.

* * *

وكفى الله المؤمنين القتال

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} فلم يحصل المشركون وحلفاؤهم على أيّ خير يزعمونه في انتصارهم على النبي(ص)، بل انهزموا شرّ هزيمة، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بما هيّأه لهم من الأسباب في موقف الإمام علي(ع) في مواجهة بطل المشركين عمرو بن عبد ودّ وقتله له، ما أضعف معنويات المشركين، وفي إرسال الرياح العاصفة التي اقتلعتهم من مواقعهم التي كانوا فيها، وفي غير ذلك مما أرسله الله من ملائكته {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} فإذا أراد شيئاً بعباده، فلا رادَّ لإِرادته، وإذا اقتضت مشيئته أن يقهر أحداً بقوته، فلا يستطيع أحد أن يواجهها بأيّة وسيلة، ولا يملك أحد أن يواجه عزته التي لا تقهر، فهو الذي يكفي من كل شيءٍ، ولا يكفي منه شيء.