سورة الأحزاب الآيات 26-27
الآيتـان
{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطأوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (26ـ27).
* * *
معاني المفردات
{ظَاهَرُوهُم}: المظاهرة: المعاونة.
{صَيَاصِيهِمْ}: الصياصي جمع صيصية، وهي الحصون التي يمتنع بها.
* * *
مواجهة النبي(ص) يهود بني قريظة وانتصاره عليهم
في هاتين الآيتين إشارة إلى مواجهة النبي والمسلمين لليهود من بني قريظة الذين كانوا يسكنون في ضواحي المدينة، وكان بينهم وبين النبي عهدٌ بأن لا يساعدوا العدوّ عليه، ولكنهم نقضوا العهد عندما بدأت مؤامرة الأحزاب، وأعلنوا الحرب ضد النبي محمد(ص) والمسلمين، ما جعل النبيّ في حلٍّ من عهده معهم، فأعلن الحرب عليهم بعد هزيمة الأحزاب، ونادى مناديه أن يخرج المسلمون إلى بني قريظة، فلما بلغوهم، أغلقوا عليهم باب الحصن، فعرض عليهم رسول الله(ص) الإسلام على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإلا حاصروهم حتى يستسلموا أو يحاربوا، فأشار عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يسلموا ويؤمنوا بمحمد(ص) وقال: فوالله، لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في التوراة، فأبوا وقالوا: لا نفارق ديننا.
وبدأ الحصار الإسلامي يطبق عليهم، واستمر إلى خمسٍ وعشرين ليلة، حتى لم يستطيعوا البقاء معه، فطلبوا من النبي(ص) النزول على حكم سعد بن معاذ، وهو رئيس الأوس، وكان بنو قريظة حلفاء لهم، فوافق النبي(ص) على ذلك، وقال لسعد: احكم بما شئت عليهم، قال سعد: وحكمي نافذ عليهم؟ قال النبي(ص): نعم، فحكم سعد أن يقتل رجالهم المقاتلون وأن تقسم أموالهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار، لأن للأنصار دياراً ولا ديار للمهاجرين.
وهكذا استجاب الرسول لهذا الحكم ونفّذه بشكلٍ دقيق، انطلاقاً من نقضهم العهد بالمستوى الذي تحوّلت فيه مواقعهم في المدينة إلى خطرٍ مستقبليٍ دائم على الإسلام والمسلمين، بعد أن كان حاضرهم يتحرك في اتجاه ممارسة هذا الخطر الذي حذَّر الله المسلمين منه.
* * *
الحديث عن قسوة الحكم على بني قريظة
وقد أثار البعض حديث القسوة الشديدة في هذا الحكم العنيف الذي لا رأفة فيه ولا رحمة، في الوقت الذي استسلموا فيه له بشكل مطلقٍ، ولكن التأمّل في طبيعة الموقف، قد يجعلنا نتفهم عدالة المسألة في مثل هذه القضايا التي لا تخضع لأجواء المأساة، بل لخطوط العدالة في طبيعة الحيثيات والظروف المحيطة بالموقف.
فقد لاحظنا أنهم نقضوا العهد الذي عاهدوا النبي عليه، من دون أن يكون هناك أيّ موجب لذلك، فقد كانت أوضاع المسلمين معهم في نهاية الرعاية وفي المستوى الكبير من الوفاء بالعهد، ما جعل النقض خاضعاً لعقدة خيانةٍ داخليةٍ خطيرةٍ.
وقد ترك لهم النبي المجال لتفادي الخيار الصعب بالدخول في الإسلام ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولكنهم رفضوا ذلك، كما رفضوا النزول عند حكمه، وفضّلوا النزول على حكم سعد بن معاذ، آملين أن يكون تحالفهم القديم مع عشيرته الأوس مصدر سلام لهم، في ما يعتقدونه من تأثير على قرار سعد. ولكن سعداً كان ينطلق من دراسته للعقدة اليهودية ضد الإسلام والمسلمين، لأنه كان يعرف خلفياتهم الفكرية، ويلاحظ تحركاتهم المشبوهة في إثارة الفتن والقلاقل في داخل المجتمع الإسلامي، ما جعله يقرّر ضرورة إنهاء أمرهم بشكل حاسم، لأن أنصاف الحلول قد أثبتت فشلها لدى هؤلاء الذين يلعبون على الحلول وعلى المتغيرات من الأحداث ليوظّفوها لصالحهم، فكان حكمه على هذا الشكل.
وقد ذكر الكاتب المصري عباس محمود العقاد في هذا المجال «أنّ سعداً إنما دانهم بنص التوراة الذي يؤمنون به، كما جاء في التثنية: «حين تقرب من مدينةٍ لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة تغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك إلهك[1]»[2].
وهكذا كانت المسألة في دائرة القاعدة المعروفة: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» من ناحيتين، ناحية قبولهم بحكمه، وناحية التزامهم الشرعي بمضمونه في علاقتهم بالآخرين، فلم يكن من النبي محمد(ص) إلا تنفيذ ما التزموا به.
{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي ناصروهم من يهود قريظة {مِن صَيَاصِيهِمْ} وهي الحصون التي يتمتعون بها من أعدائهم {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} في ما واجهوه من قوّة المسلمين ومن ضغط الحصار عليهم بعد أن كانوا في حالة استرخاء أمنيٍّ، لاعتقادهم بأن مؤامراتهم لم تنكشف للنبي، وأن من الممكن أن يقبل عذرهم ويعفو عنهم {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} في ما حدث من قتل الرجال وسبي الذراري والنساء {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} في سيطرتكم المطلقة على كل مقدراتهم {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَأوهَا} وهي أرض خيبر أو الأرض التي أفاء الله بها على المسلمين مما لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب،{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً} فهو القادر على أن ينصركم بنصره ويعزكم بعزه، فكونوا على ثقةٍ من ذلك في ما يواجهكم من تحدياتٍ وصعوبات.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكتاب المقدس، العهد القديم، دار الكتاب المقدس، سفر: التثنية، الإصحاح: 20، آية: 10ـ15، ص:311
(2) العقاد، عباس محمود، المجموعة الكاملة، العبقريات الإسلامية، عبقرية محمد، دار الكتاب اللبناني، 1984م، م:1، ص:64.
تفسير القرآن