تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 28 إلى الآية 34

 من الآية 28 الى الآية 34
 

الآيــات

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَْزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ

أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً* يا نِسَآءَ النَّبيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ

للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً* يا نِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي

قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً* وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} (28ـ34).

* * *

معاني المفردات

{أُمَتِّعْكُنَّ}: أعطكن متعة الطلاق، وقيل: أمتعكنّ بتوفير المهر.

{وَأُسَرِّحْكُنَّ}: أطلقكنّ.

{فَلاَ تَخْضَعْنَ}: أي لا ترققن القول.

{وَقَرْنَ}: قرّ يقرّ: ثبت.

{تَبَرَّجْنَ}: التبرج: إظهار المرأة محاسنها للنّاس.

* * *

الحديث عن نساء النبي(ص)

في هذا الفصل من السورة حديثٌ مفصَّلٌ عن الخط العملي والعمق الروحي للجوّ الذي يريد الله للبيت النبوي أن يعيش فيه في حياة زوجات النبي(ص)

مع إطلالةٍ سريعةٍ على بعض خصوصيات أهل بيته.

* * *

اهتمام الوحي ببيت النبي(ص)

قد يكون الأساس في الاهتمام القرآني بالتوجيه الخاص للوضع الداخلي في بيت النبي(ص)، انعكاس ذلك سلباً أو إيجاباً على النظرة العامة للموقع

النبويّ، في ما يمكن أن يثيره المنافقون من أقاويل وانطباعات ضده من خلال ما قد يحدث من بعض زوجاته من أوضاع خاصةٍ تسيء إلى مكانته،

وذلك من خلال النظرة الاجتماعية الساذجة التي تحمّل صاحب البيت مسؤولية أهل بيته، خلافاً للنظرة الإسلامية التي لا تحمّل أحداً مسؤولية انحراف

شخص آخر من متعلِّقيه إلا بمقدار تقصيره في منع الانحراف، أو رضاه عنه، إذ لا فرق بين أهله وبين الناس الآخرين في تحديد المسؤولية بالدعوة إلى

الله، بكل الأساليب العملية التي تؤدي إلى الهداية. فليس على النبي إلا البلاغ، وليس على صاحب البيت إلا بذل جهده في هداية أهل بيته. وتبقى

النتائج السلبية أو الإيجابية خارجةً عن مسؤوليته أمام الله.

وهذا هو ما قد يحتاج المسؤولون عن الدعوة إلى الله والعاملون في سبيله أن يعرفوه، من ضرورة توفرهم على سلامة البنيان الداخليّ لبيوتهم، بالتربية

الإسلامية، والتركيز الإيماني الروحي، والسير على خط التقوى، لأن ذلك قد يترك أكثر من انعكاس.

* * *

النبي يخيِّر زوجاته بين الدنيا والآخرة

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَْزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} في ما تريده النساء الأخريات من شؤون الترف والاستمتاع المادي الذي يستهوي الحسّ

ويثير الطموح الذاتي في تلبية الشهوات وإرضاء المطامع، فلن تلاقين مني الضيق والقهر والضغط والاضطهاد، لأني لا أريد لأيّة واحدةٍ منكنَّ أن تعيش

مقهورةً مضطهدة، في ظل الضيق المادي الذي أعانيه، وفقدان الاستقرار، وصعوبة الظروف.

فإذا كانت إرادتكنَّ هذا النوع المترف من الحياة مما لا أستطيع تحقيقه إلا بالانحراف عن أمانة الرسالة، ومسؤولية الرسول.{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ

سَرَاحاً جَمِيلاً} وذلك بأن تأخذ كل واحدةٍ منكن حقوقها الواجبة بالعقد، مع زيادة على ذلك من نفقةٍ أو عطيّةٍ مقبولةٍ، لتأخذن حريتكن في أجواء المودة

والرضا والخير والإحسان.

{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ} بكل ما يفرضه هذا الارتباط بالرسول الذي يحمل مسؤولية الرسالة ليجعل حياته كلها لله في إبلاغ وحيه،

وخدمة شريعته، والجهاد في سبيله، وفي تحمّل مسؤولية الأمة في ما تحتاجه في حياتها مما يستطيع أن يقدّمه لها من جهدٍ أو علمٍ أو مال، ما يجعل

الذين يعيشون معه في حياته الخاصة أشخاصاً واعين للدور الكبير، ومستعدِّين للتضحية بأوضاعهم الذاتية المزاجية ومصالحهم الشخصية في سبيله،

تماماً كما هو النبي(ص) في ذلك، لأن ذلك هو معنى الارتباط الواعي بالرساليين، سواء كان ذلك في مستوى العلاقات الزوجية، أو في مستوى العلاقات

الإنسانية الأخرى في الدائرة العامّة.

وهكذا نفهم من خلال هذا الخط التخييريِّ، الإنساني في عمق روحيته، الواقعيّ في طبيعة حركته، أن العلاقة بين النبي وزوجاته، لم تكن خاضعةً لحالةٍ

حسيّةٍ شهويّةٍ، قائمة على الرغبة الجسدية للنبي، كما يحاول أعداء الإسلام أن يثيروه، ليشوّهوا قداسته الروحية وصفته الرسالية. وها نحن نفهم من خلال

هذه الآية أن النبي ـ من خلال وحي الله ـ يترك لهن كل الحرية في التخلص من قيود الزوجية بالطلاق، ويطرح عليهن ـ في الجانب الآخر ـ أن يعشن

معه أجواء التضحية في سبيل الله، لينطلقن معه بصفتهن الإيمانية المنفتحة على الحياة لا بصفتهن الذاتية الغارقة في أجواء الملذات، {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ

لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} في ما ينتظرهن من نعيم الله ورضوانه في الدار الآخرة.

ولعل في الحديث عن الأجر العظيم للمحسنات منهن، بعض الإيحاء بأن الزوجية للنبي ليست قيمةً روحيةً في ذاتها، لتكون لزوجاته القداسة الإسلامية

بصفتهن الزوجية، بل القيمة كل القيمة، للإحسان في الخط العملي المتحرك مع الإخلاص لله ولرسوله وللدار الآخرة، تماماً كما هم المسلمون الآخرون

من الرجال والنساء، في اعتبار التقوى في خط الإيمان أساساً للحصول على كرامة الله ورضاه، وهذا هو العمق الرسالي الذي يربط الناس بالأشخاص من

خلال علاقتهم بالله، في القرب منه والبعد عنه، بعيداً عن الصفة الذاتية في ذلك.

* * *

تحذير نساء النبي من عواقب الانحراف

{يا نِسَآءَ النَّبيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أي معصيةٍ واضحةٍ، في ما يمثله ذلك من التمرّد على إرادة الله في أوامره ونواهيه، {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ

ضِعْفَيْنِ} والضعفان هما المثلان، لأن في ذلك إساءتين، فهناك إساءة على مستوى الالتزام في انحراف العاصية عن خط الشريعة، وهناك إساءة على

مستوى الجوِّ العام المتصل بالموقع الرساليّ في ما يمثله من انعكاس سلبيٍّ على صورة البيت النبوي في داخل المجتمع، ما يؤثر تأثيراً سلبياً على صورة

الرسالة، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} لأنه القادر على أن ينزل العقاب بكل العصاة من عباده مهما كانت منزلتهم الاجتماعية، فلن يعجزه أحد من خلقه.

{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} في ما يمثله القنوت من الخضوع المطلق والطاعة الخاشعة، وفي ما يوحيه العمل الصالح من انفتاح

الإيمان على خط العمل، {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} لأنها أطاعت الله في ما يأمرها به أو ينهاها عنه، ولأنها قدّمت المثل الحيّ الصالح على أن البيت النبوي

يجسِّد الالتزام بالإسلام في كل نماذجه، ليكون قدوةً للآخرين في ذلك، {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي هيّأنا لها رزقاً كريماً في جنة الله في الآخرة.

{يا نِسَآءَ النَّبيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ}، قد يكون معنى هذه الفقرة: أنتن فوق النساء شرفاً وكرامة برسول الله،{إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} بحيث تكون التقوى شرطاً في

بلوغهن هذه الدرجة الكبيرة بالإضافة إلى علاقتهن الزوجية بالنبي(ص).

وقد يكون المعنى، هو أن مسؤوليتكن ـ من خلال موقعكن في حياة النبي الداخلية، وانتسابكن إليه ـ تختلف عن مسؤولية سائر النساء، لأن لكنّ دوراً كبيراً

في إعطاء المثل الحيّ والقدوة الصالحة، بالإضافة إلى الدور الذاتي في الالتزام، ما يفرض عليكن أن تتشدّدن في إلزام أنفسكن بالخط الإسلامي بالمستوى

الأعلى من ذلك. وبذلك تكون كلمة «إن اتقيتن» شرطاً للجملة التالية {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي ترققن الكلام بالطريقة التي تثير مشاعر الرجال الغريزية،

في أسلوب إيحائيٍّ مشبع بالإغراء في طبيعته {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِى قَلْبِهِ مَرَض} من أولئك الذين يفقدون الإيمان وينطلقون في خطوط الفسق والنفاق،

فيتحركون من أجل نصب شباك الرذيلة حولهن، فيترك تأثيره في بعض الحالات على نفوسكنّ التي قد تستجيب ـ لا شعورياً ـ للإغراء، أو قد يترك ذلك

تأثيره على الصورة المشرقة للبيت النبوي، {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} منسجماً مع التوازن في الصوت وفي الكلمة والمضمون الذي لا يشتمل على أيّ إيماءةٍ

إيحائيةٍ غير أخلاقية.

ولعل المعنى الثاني أقرب، لأن الجوّ ليس جوّ تفضيل نساء النبي على الآخرين، بل هو جوّ الحديث عن طبيعة الدور من خلال الموقع، ما يجعل

التوجيه نحو الإخلاص للموقع والدور ضروريّاً، كما يشير إلى علاقة الطريقة التي ينطلق بها الكلام بالتقوى، حذراً من الاعتقاد بأنّ التقوى تقتصر على

جانب المضمون والنية القلبية، ولا تتعدى إلى جانب الشكل واللحن والأسلوب؛ والله العالم.

ولا ينافي ذلك، أنَّ هذا الخط التوجيهي مشترك بينهن وبين سائر النساء، في ما يريده الله من النساء أن يتكلمن مع الرجال بطريقةٍ طبيعية لا أثر فيها

للتكلف وللإغراء، لأن المطلوب منهن زيادة الاهتمام بهذه الناحية.

* * *

تعاليم تربوية خاصة بنساء النبي

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن منها كما تخرج بقية النساء. وهل هو أمرٌ بحبسهنّ فيها، كما هو المعنى الحرفي للكلمة، أم هو كنايةٌ

عن عدم الخروج الاستعراضي الذي يظهرن فيه بطريقةٍ لا تتناسب مع كمال المرأة في تقواها الأخلاقي، وذلك بخروجهن بزينتهن؟ والمعنى الثاني هو

المقصود، فيكون مقدمةً لقوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى} لأنّ المرأة في الجاهلية التي سبقت الإسلام كانت تخرج إلى مجتمعات الرجال

ونواديهم بكل زينتها، في موضع غير لائق بالضوابط الأخلاقية في هذا المجال، وبذلك تكون الفقرتان واردتين في الحديث عن عدم الخروج من البيوت

بالطريقة التي تخرج بها النساء في الجاهلية، لا عدم الخروج أصلاً، لأنه لم يُعهد المنع المطلق من الخروج في حديث السيرة النبوية، وربما كان كناية

عن الثبات في البيوت، في ما يمثله البيت من مكان الاستقرار للمرأة في دورها الطبيعي الذي يتصل بالأمومة من جهة، ورعاية الزوج من جهة أخرى،

والإشراف على الأسرة بشكل عام، والله العالم.

{وَأَقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ} في ما يوحيان به من التقوى الروحية والعملية، والتضحية في سبيل الله من خلال العطاء المالي للزكاة، {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

فذلك هو الخط الذي يجب أن يتحرك فيه المسلم في التزامه الإسلامي العملي، سواء أكان رجلاً أم امرأة.

* * *

تطهير أهل البيت

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

هناك نقاط في البحث في هذه الآية:

1ـ من هم أهل البيت؟ قيل إن المراد بهم أزواج النبي(ص)، روى ذلك الطبري في تفسيره عن علقمة قال: كان عكرمة ينادي في السوق {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ

لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة[1]. وقد يقال إن ما يؤيده هو سياق الآية التي

وردت في أجواء الآيات المتعلقة بهن، في ما قبلها وبعدها، ما يجعل الظهور بيّناً في هذا المعنى.

وقيل إن المراد بقوله «أهل البيت»: رسول الله(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين، روى ذلك الطبري في تفسيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال

رسول الله(صلى الله عليه وسلّم): نزلت هذه الآية في خمسة، فيّ وفي علي رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه وفاطمة رضي

الله عنها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[2].

وروى ذلك عن أم سلمة قالت: كان النبي(ص) عندي، وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة فأكلوا وناموا وغطى عليهم عباءةً أو قطيفةً، ثم

قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً[3].

وفي رواية أخرى عنها، أن هذه الآية نزلت في بيتها، قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: إنك على

خير أنت من أزواج النبي(ص) قالت: وفي البيت رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين[4].

والظاهر أن القول الثاني هو الأقرب للصواب والأرجح بحسب الدليل. فإن الرواية التي رواها عكرمة لم يسندها إلى رسول الله(ص) في ما سمعه الراوي

أو المسلمون منه، فربما كانت رأياً شخصياً له على أساس اجتهادٍ خاص، لم يأت عليه بدليل واضح لننظر فيه، فلا يلزم غيره. بينما نجد الروايات

الأخرى التي تؤكد القول الثاني مرويةً عن أم سلمة في ما سمعته من رسول الله(ص) وفي ما نقلته من نزول الآية في بيتها أثناء وجود الرسول(ص) فيه

مع أهل بيته، كما رواها غيرها عنه، ما يجعل للتفسير أساساً ثابتاً من مصدر الرسالة الأوّل.

وإذا لاحظنا المسألة من جانب كثرة الأحاديث ووثاقتها، فإننا نجد أن هذه الروايات تزيد على السبعين حديثاً، من طرق المسلمين من أهل السنة أو من

طرق المسلمين من الشيعة، وربما زاد المرويّ منها عن طريق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة، فقد روتها كتب أهل السنة بطرق كثيرة عن

أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد ووائلة بن الأسفع وأبي الحمراء وابن عباس وثوبان مولى النبي وعبد الله بن جعفر وعلي والحسن بن علي في

قريب من أربعين حديثاً.

وروتها الشيعة عن علي والسجاد والباقر والصادق والرضا وأم سلمة وأبي ذر وأبي ليلى وأبي الأسود الدؤلي وعمرو بن ميمون الأودي وسعد بن أبي

وقاص في بضعٍ وثلاثين طريقاً.

وعلى ضوء ذلك، فإن الترجيح العلمي هو لهذه الروايات أمام تلك الرواية. أمّا مسألة السياق الظاهر في اختصاصها بنساء النبي، فيردها أن هذه

الأحاديث الكثيرة لم تتحدث من قريب أو من بعيد عن نزول هذه الآية مع الآيات الأخرى الواردة في خطاب أزواج النبي، ولم يذكر ذلك أحدٌ من القائلين

بالاختصاص، بل كانت الأحاديث دالةً على نزول الآية وحدها، ما يجعلها منفصلةً عن السياق بطبيعتها، ولكنها وضعت في ضمنه للمناسبة.

وقد يبعّد الرأي الأول، أن الاختصاص ووحدة السياق يفرضان أن يكون التعبير الخطابي بكلمة «عنكن» لا بكلمة «عنكم».

وقد يذهب البعض إلى قولٍ ثالثٍ، وهو شمول الآية لأزواج النبي بالإضافة إلى أهل البيت، ولكن الروايات الواردة عن أم سلمة تنفي ذلك، كما جاء عنها

أنها عندما تساءلت عن شمولها لها قال لها النبي(ص): إنك على خير، ولكن المراد بها هم هؤلاء الأشخاص المميزون بأسمائهم، كما أن الروايات تؤكد

على الاختصاص.

ولعلّ كلمة أهل البيت تحوّلت إلى مصطلحٍ خاص بهؤلاء الأشخاص على لسان النبي(ص) ولسان المسلمين من بعده، حتى أصبحت تنصرف إليهم

بشكلٍ سريع من دون أيّ التباس، حتى أنها لا تشمل بقية أقربائه مع شمول الكلمة لهم بحسب العرف العام.

وقد جاء في صحيح مسلم بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: "ألا إني تارك فيكم ثقلين؛ أحدهما كتاب الله عز وجل هو

حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال:لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر

ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها،أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده[5].

2 ـ ما معنى الرجس؟ الرجس في اللغة هو الشيء القذر، الذي قد يتعلق بالجسد ونحوه من الأشياء المادية، كما قد يتعلق بالجانب المعنوي من

الشخصية، فقد عبر الله عن لحم الخنزير بأنه رجس كما عبّر عن الشرك والكفر وأثر العمل السيِّىء في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ

رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125]. وفي قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً

حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].

وفي ضوء ذلك، فإن الظاهر إرادة الملكات الأخلاقية السلبية التي تمثل قذارة الروح، كما يمكن أن تطل الكلمة على معنى آخر، وهو الأخطاء الفكرية في

إدراك الأمور، في ما يمكن أن تحمله الكلمة من إيحاءات تلتقي بالعصمة الذاتية التي هي لطفٌ إلهيٌّ يثيره الله في داخل النفس، فيمنعه من باطل

الاعتقاد وسيّىء العمل، من خلال ما توحي به كلمة القذارة من المعنى الموجب للتنفّر والبعد عن الشيء والاجتناب عنه.

3 ـ دلالة الآية على عصمة أهل البيت: إن الشيعة الإمامية استدلوا بهذه الآية على العصمة، لأن اللاّم في الكلمة للجنس، ما يجعلها شاملةً لكل ما

يوجب الخلل في الشخصية مما يوجب النفور منها، في ما تنحرف به، وتخطىء فيه، فتكون دالةً على تعلّق إرادة الله بإزالة كل الجذور العميقة التي تقود

إلى الانحراف، أو تدفع إلى الخطأ.

وربما يذكر البعض بأن المراد هو تعلق الإرادة الإلهية بالاستقامة على خط التقوى، في ما يريده لكل الناس، أو التشديد في التكاليف، ما يجعل المسألة

مربوطةً بالالتزام، لا بالعصمة، فإن الله جعل شريعته وسيلةً لتطهير الناس وإذهاب الرجس عنهم، فلا تكون لها أيّة خصوصية في هذا المجال. ولكن

هناك نقطةً مهمّةً في هذا الموضوع، وهي أن الآية مختصة بأهل البيت كما أنها شاملة للنبي محمد(ص)، ما يوحي بأن هناك خصوصية في المسألة

تختلف عن الوضع العام الذي يتعلق بالناس بشكل عامّ، لا سيّما في ما يتعلق بمقام النبي(ص).

وفي ضوء ذلك، تكون الإِرادة الإلهيةهي الإرادة التكوينية التي تتدخل في تكوين الخصائص الذاتية في داخل الذات، ما يحقق للشخصية ملكاتٍ روحيةٍ

ثابتةٍ متحركةٍ في اتجاه إيجاد الجوّ الفكري والروحي، الذي يدفع إلى اختيار الحق في القول والفكر والعمل، لا الإرادة التشريعية التي تقتصر على توجيه

التكاليف.

وهناك أبحاثٌ واسعةٌ في مسألة العصمة، في دليليها العقلي والنقلي، وفي بعض فروعها الفكرية، لا يتسع لها المجال التفسيري، فلتطلب في مظانّها من

أبحاث علم الكلام.

* * *

رجوع الحديث إلى نساء النبي(ص)

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} في ما جعله الله من المنهج الفكري والعملي الذي يثير الفكرة السليمة في الخط المستقيم، ويؤكد

السلامة للتطبيق العملي في سلوك الإنسان في دائرة الحق. وهذا هو الذي ينبغي لهنّ أن يذكرنه في وعيهنّ الفكري، وفي إحساسهنّ الروحي، وفي

التزامهنّ العملي، فلا ينسينه، أو يهملنه، على أساس ما قد يعيشه بعض الناس من فقدان الاهتمام بما يكون مألوفاً لديه، باعتبار أنه من الأمور التي

تتحرك في أجواء البيت، فلا تثير الفضول الذاتي، ولا تحرّك الاهتمامات الروحية الناشئة غالباً من الاستغراق في التطلّع إلى الأشياء الخفية التي تحمل

في داخلها بعض الخفايا المثيرة.

ولعلّ هذا هو السبب في التأكيد على مسألة ذكر آيات الله والحكمة، حتى لا يستغرقن في ذاتياتهن المرتبطة بأجواء البيئة غير الإِسلامية وبعمق

الرواسب الذاتية في الداخل، فيبتعدن بذلك عن أجواء النبوّة ومستلزماتها في ما يجب أن يعيشه البيت النبويّ من استقامة والتزام {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}

ففي لطفه نلتقي بالروح الإلهي الذي يرعى عباده بكل خيرٍ ورحمة، وفي خبرته وإحاطته بالأشياء كلها، نستشعر الثقة باطلاعه على كل ما يصلحنا

ويفسدنا، في ما يأمرنا به أو ينهانا عنه، وبرقابته علينا في كل ما نفعله ونتركه من أمورنا السرّية والعلنية.

ــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري، ج:22، ص:7ـ8.

(2) (م.ن)، ج:22، ص:5.

(3) (م.ن)، ج:22، ص:6.

(4) (م.س)، ج:22، ص:7.

(5) صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط:3، ج:15، ص:181.