تفسير القرآن
الأحزاب / الآية 36

 الآية 36
 

الآيــة

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (36).

* * *

استسلام المؤمنين المطلق لقضاء الله ورسوله

هذا هو الخط المستقيم في الالتزام الإيماني للإنسان المؤمن، رجلاً كان أو امرأة، إذا وقف أمام أوامر الله ونواهيه، فلا بد له من الاستسلام المطلق الذي لا مجال معه لأيّة خصوصية فكريةٍ أو عاطفيةٍ أو مزاجية أو أيّة مصلحةٍ شخصيةٍ أو أيّ وضعٍ عائليٍّ أو اجتماعي، في ما يمكن أن يدفعه إلى التأمّل والتفكير أو التوقف فيما بين خط التقدم والتأخر، لأن الإنسان المؤمن يحمل الإحساس الداخلي العميق بأن وجوده لا يملك أيّة استقلاليةٍ أمام وجود الله، وأن إرادته لا تملك أيّ تماسكٍ أو أيّة قوّةٍ، في مواجهة إرادة الله ، بل هي منسحقةٌ في خط إرادته، وهذا هو الذي يحفظ للإنسان توازنه، وللمجتمع نظامه، وللحياة قوّتها وصلابتها واستقرارها.

* * *

المؤمن والمؤمنة سواء في التكليف

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} في ما يفرضه الإيمان في شخصية الرجل أو في شخصية المرأة من انفتاح على معنى الألوهية في ذات الله، وسرّ العبودية في ذات الإنسان، في ما يفرضه ذلك من انسحاق كل خصوصيات الذات أمام الله، فليس لأيّ منهما {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} من أمور التشريع في نظام الإنسان في حياته الفردية أو الاجتماعية، في ما يأمر به الله أو ينهى عنه، مما كان موافقاً لمزاجه أو مخالفاً له {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فلا مجال هناك لعملية الاختيار الذاتي، ليوازنوا بين ما يريدونه وبين ما يريده الله، ليختاروا هذا تارةً وذاك أخرى، فإن هذا هو معنى الإسلام في معناه العميق الذي يعني إسلام كل شيءٍ لله، واختيار ما يريده دائماً على طول الخطّ.

{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويتمرد على إرادتهما في خط الشريعة التي أنزلها الله على رسوله، أو شرّعها الرسول بأمر من الله، {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} لأنه لا يرتكز على قاعدةٍ صلبةٍ، ولا ينطلق في خط مستقيم، بل يبقى في قبضة الرياح العاصفة الهوجاء، يتحرك ذات اليمين وذات الشمال، تبعاً لاهتزاز الأهواء الحائرة في عمق مزاجه أو المتحركة في أهواء الآخرين، فقد يحلِّل اليوم شيئاً ليحرِّمه غداً، وهكذا تسير الأمور في اتجاه الضياع الذي يتجه نحو اللاّهدف.

* * *

إشكالية الاختيار الإنساني في لزوم الطاعة المطلقة

وقد يعلّق البعض على هذا بأنه قهر إلهي للإنسان، إذ يشعر بالانسحاق الذاتي الإراديّ، فلا يملك أن يحدد لنفسه موقعاً، في ما يرضاه لنفسه من مواقع، ولا أن يحدد لها هدفاً في ما يحبه من أهداف، ما يجعله يتطلع إلى حياته في دائرة المأساة لا في دائرة الحرية القائمة على الانفتاح الحرّ من الموقع الإنسانيّ.

ونجيب على ذلك، بأن هذه المشاعر السوداوية المأساوية تتحرك في ذات الإنسان غير المؤمن الذي يعيش القهر الذاتيّ أمام الواقع الكونيّ الذي يحيط به في ضغطه على حركته في قدراته الذاتية، بحيث يشعر بنفسه محكوماً للقوانين الطبيعية التي تحدد له حرية حركته في ما يحبه أو يشتهيه، سواء كان هذا الإنسان مؤمناً بالله من ناحيةٍ عقليةٍ من دون التزام، أو كان كافراً به.

أمّا الإنسان المؤمن الذي يرى أنَّ وجوده مستمدٌّ من الله، كنعمةٍ من نعمه الممتدة في كل حياته، المستمرة معه، ويرى أنَّ الله الذي جهَّز الإنسان بالأجهزة الضرورية التي تحرك حياته في الموقع الصحيح في ما يصلح له وجوده، هو الذي يخطط لهذه الحياة ويمنحها السلامة الدنيوية والأخروية، فليست هناك شريعةٌ ما من وحيه، إلا كان معها سر يحدد الصلاح في ما تأمر به، والفساد في ما تنهى عنه، فلا مجال للشعور عنده بالقهر المأساويّ، في ما لا يتقبله الطبع، إلا كما يكون القهر في ما يتجرعه المريض من الدواء الذي يأمر به الطبيب، شفاءً لمرضه وإنقاذاً لحياته.

بل قد يكون الإيمان الواعي المنفتح منطلقاً في عمق الفكر والروح والشعور للإيمان بأن الإرادة الإلهية دائماً على حق، لأنها لا تتحرك إلا في مواقع الحق، لعدم حاجتها إلى الباطل في تأكيد مصداقيتها في حياة الإنسان، مما يعني أن الإرادة الإنسانية الملتزمة بخط الله تحمل في داخلها الإيمان بأن إرادة الله في شريعته، هي التي تمثل حرية الإرادة الإنسانية التي هي المصلحة الحقيقية للإنسان.