تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 37 إلى الآية 40

 من الآية 37 الى الآية 40
 

الآيــات

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً* مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً* مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً} (37ـ40).

* * *

معاني المفردات

{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زوْجَكَ}: كناية عن الكف عن تطليقها.

{وَطَراً}: الوطر: الأرب والحاجة، وهو كناية عن الدخول والتمتع.

* * *

مناسبة النـزول

نزلت بعض هذه الآيات أو كلها في قصة زواج النبي محمد(ص) من زينب بنت جحش، وكانت قبلاً زوجةً لزيد بن حارثة، الذي كان عبداً له فحرره وتبناه وزوّجه ابنة عمته زينب لمحبته له، وليبطل بذلك العرف الجاهلي الذي كان يرفض زواج ابنة العائلة الكريمة من غير الكفؤ في النسب، لا سيما إذا كان عبداً ثم تحرّر، لأن العبودية تزيده عاراً. وقد أبطل الله هذا التبني عندما أنزل على النبي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} واستمر الزواج بين زيد وزينب مدةً طويلة، ولم يكن الحال بينهما على ما يرام، لأنها لم تجده كفؤاً لها، أو لغير ذلك من الأمور.

وجاء زيد إلى النبي ليطلقها، ولكن النبي(ص) كان يطلب منه أن لا يفعل ذلك، وأن يبقى على علاقته الزوجية بها، وكان يأمره بتقوى الله والابتعاد عن طلاقها، ولكن زيداً أصرّ على الطلاق، لأن الأمر لم يعد يحتمل الاستمرار، فما كان من النبي إلا أن تزوجها تنفيذاً لأمر الله بذلك لتأكيد إبطال عادة التبني بالزواج من زوجة الولد المتبنّى، في الوقت الذي كان لا يجوز فيه للأب الزواج من زوجة ولده المتبنّى، ليكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تحسم المسألة بشكلٍ صارخ لا مجال فيه لأيّ شكٍّ أو التباس.

* * *

هل كان النبي يعجب بجمال زينب بنت جحش؟

وقد أثار البعض من المفسّرين علامات استفهام حول هذه القصة، وتحدثت بعض الأقاصيص عن رؤية النبي لزينب بشكل غير مقصود، وإعجابه بجمالها، ومعرفة زيد بذلك من خلال إخبارها له بذلك، وعزمه على الطلاق منها ليتخلى عنها لرسول الله إخلاصاً منه له، ولكن رسول الله لم يوافقه على ذلك، ومع ذلك لم يتخلّ زيد عن إصراره على الطلاق. وهكذا كان، واستغل أعداء الإسلام هذه الحادثة، ليهاجموا شخصية الرسول وروحانيته، وليتخذوا ذلك أساساً لإنكار نبوّته لأنه كان الإنسان الذي يعيش لشهواته، حتى أنه يشتهي زوجة ولده بالتبني ويهيّىء الوسائل النفسية الضاغطة عليه ليطلقها وليتزوجها بعد ذلك، ما يتنافى مع أخلاقية الإنسان العاديّ، فكيف يتناسب مع شخصية النبي.

وقد استوحوا ذلك من قوله تعالى: {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} فقد فسروا ذلك بأنه كان يخفي رغبته بها وتطلّعَه إلى الزواج منها، وكان يخشى من انتقاد الناس له في ذلك وانفضاضهم عنه، ولكن المفروض فيه، أن تكون خشيته لله من ذلك، لأن عقابه أشدّ، ما كان يفرض عليه الابتعاد عن هذا السلوك.

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو أن النبي لو كان يرغب في الزواج بها، لكان باستطاعته ذلك منذ البداية، لأنها ابنة عمته، ولأنها كانت، في ما تنقله بعض الروايات، رافضةً لزيد، وذلك في ما رواه في الدر المنثور، قال: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسباً، وكانت امرأةً فيها حدّة، فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ}[1] الآية كلها. وفي هذا دلالةٌ على أن زواجها من زيد كان بضغط من النبي(ص) ورضوخ لإِرادته، الأمر الذي يؤكد عدم وجود رغبةٍ شخصيةٍ من النبي في اختيارها لنفسه، مع أنه كان يعرفها حق المعرفة من خلال قرابته القريبة لها. هذا من جهةٍ.

ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن دراستنا لشخصية النبي محمد(ص) تدل على السموّ الأخلاقي الروحي الذي يجعله في منأىً عن أيّ نوع من أنواع السلوك الذي يوحي من بعيدٍ بمثل ذلك، فكيف يمكن أن يلتقي بالحركة التي تتعمد ذلك، ولو صح مثل هذا، لكان موجباً لسقوط مكانة رسول الله عند زيد وزينب معاً، وعند المجتمع الإسلامي كله، لاسيما في الجوّ القرآني الذي ينسب إليه أنه يخشى الناس أكثر مما يخشى الله، حسب الفهم المذكور للآية. أمَّا استفادة هذا المعنى السيىء من الآية، فهو غير صحيح لما سنذكره عند التعرض لتفسيرها.

وخلاصة الفكرة، أن زواج النبي من زينب كان منطلقاً من أمر الله لنبيّه، لتأكيد الفكرة في إبطال علاقة التبنِّي من حيث الآثار الشرعية، فليست هناك أيّة علاقة للولديّة المدّعاة من ناحيةٍ شرعية، فيجوز للأب المتبنِّي أن يتزوج مطلقة الولد المتبنّى، وهو ما لا يجوز في علاقة النسب بين الأب وولده، فهو زواج داخلٌ في دائرة حركة التشريع في الواقع، لا في دائرة حركة الشهوة في الذات.

* * *

طلب النبي(ص) من زيد أن يبقي زوجته

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالرعاية والتبني والعناية بكل شؤونه الخاصة التي كان من بينها زواجه بابنة عمتك التي كانت في المستوى الكبير من النسب الذي لا يتناسب مع موقعه الاجتماعي العائلي، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وأبق على العلاقة الزوجية، واصبر على بعض ما تجده في نفسك من نوازع ومضايقات، أو ما تجده في حياتك من مشاكل وآلام، {وَاتَّقِ اللَّهَ} في ذلك، فقد تكون الخطوة التي تريد أن تخطوها في الإصرار على الطلاق، بعيدةً عن خط التقوى، في ما يمكن أن تسيء بها إلى نفسك أو إلى زوجتك، مما لا بدَّ لك من أن تلاحظ فيه الله فتتقيه في ما يرضاه ويحبه، ولا تقتصر في ذلك على النوازع الذاتية.

{وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} مما عرّفك الله إيّاه من النتائج الأخيرة التي ستنتهي إليها علاقة زيد بزوجه من الطلاق، ثم زواجك الذي أراده الله لك بها، فلا تصرّح به لزيد، ولكن الله مظهره في ما تنتهي إليه الأمور.

* * *

هل يخشى النبي(ص) الناس أكثر من خشيته الله؟

{وَتَخْشَى النَّاسَ} في ما قد يثير ذلك من الأقاويل والتأويلات التي لا تتناسب مع مقامك ومقام النبوّة، ممّا قد يترك تأثيراً سلبياً على موقع الرسالة في القلوب، وحركتها في الواقع، لأن البعض قد يفهم المسألة بطريقةٍ أخرى، كما أن المنافقين قد يحرّكونها بأسلوبٍ سيِّىءٍ {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} في ما يخطط لك من سلوكك في حياتك الخاصة وفي علاقاتك بالآخرين في دائرة الزواج أو في غيرها، لأن تصرفاتك ليست ملكك، بل هي ملك الرسالة في ما تحتاجه من حركتك في صعيد الواقع.

وقد نتساءل، كيف نفسر هذه الحالة النفسية التي يعيشها النبي(ص) من القلق الداخليّ الحائر بين خشية الناس وخشية الله، أو في ترجيح خشية الناس على خشية الله، وكيف يتفق ذلك مع الروحية العالية في انفتاحه الخاشع على الله من موقع محبته له وخوفه منه، بقطع النظر عن طبيعة المضمون الذي تتعلق به الخشية؟

والجواب عن ذلك، أن الخشية من الناس ليست منطلقة من خوفٍ ذاتيٍّ ناتجٍ عن ضعفه الداخلي أمام ما يقولونه من خلال تأثيره الشخصي على ذاته، ليكون ذلك منافياً للروحية العالية في مقام النبوّة، بل كانت منطلقةً من خوفٍ على الرسالة، في ما يمكن أن تتأثر به سلبياً من خلال الأجواء القلقة التي تثيرها كلمات الآخرين من المنافقين في هذا الاتجاه، فهي خشية على الرسالة لحساب الله، في المشاعر الطبيعية التي تربط بين الأشياء وبين أسبابها العادية في الواقع، في غياب تكليفٍ حاسمٍ من الله في ذلك، في الفترة التي كان زيد يطرح طلاق زوجته منه.

أمّا خطاب الله له بأن عليه أن يلتفت إلى خشية الله، فهو أسلوب إيحائيٌ بالقوّة في الموقف، على أساس ما يتصل بذلك من الضمانات الإلهية في إبعاد الرسالة عن التأثر بمثل هذه الأساليب التي يثيرها المنافقون، في جوٍّ من العتاب الخفيّ المحبّب الذي يسعى إلى إزالة كل نوازع الذات التي يثيرها الضعف البشري الذي يتحرك في النفس بطريقةٍ لا شعوريّة، تماماً كما هي التقلّصات الجسدية التي تحدث للجسد عند حدوث أيِّ حركة تؤثر في ذلك. ولم تكن المسألة مسألة تقويم شعور النبي بتوجيهه أن الله هو الأحقّ بالخشية منه، لأن هذه الحقيقة هي الحقيقة التي تمثل عمق الإيمان بالله، وشعار الدعوة إليه، فكيف يمكن للنبي أن يغفل عنها في نفسه؟ بل هي مسألة إيحاءٍ له بالنتائج الواقعية للموضوع، وأنّ الآخرين لن يفعلوا شيئاً مهمّاً فيه، فإن الله هو الذي يدبّر الأمور بعيداً عن السلبيات العملية في حركة الرسالة، ليتحرك النبي من موقع الثقة الرسالية الواثقة بالجانب العملي من الواقع، في غير خوفٍ ولا وجل، والله العالم.

* * *

زواج النبي من زينب بنت جحش

{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} فعاش معها مدّةً معينةً تماماً كما يعيش أيّ زوج مع زوجته في ما يستمتع به في حركة الغريزة أو المعاشرة، حتى يستنفد حاجته منها، أو تتبدل رغبته إلى موقع آخر، أو تحدث هناك بعض المشاكل التي تجعل من الحياة الزوجية شيئاً غير مريح، ثم كانت عملية الانفصال، فلما حدث ذلك {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} وهكذا كان الزواج أمراً من الله لتأكيد شرعةٍ إلهيّةٍ في إلغاء مبدأ التبنِّي، من خلال سلوك النبي العملي الذي يفرض المسألة من موقع الصدمة القويّة القاسية المثيرة للجدل، في ما يوحي به ذلك من ثباته في التشريع.

{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} لا مجال فيه للتردد والتراجع من خلال إرادة الله الحاسمة، {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} مما شرّعه في شريعته، فليس عليه غضاضةٌ في ذلك، وليس لأحدٍ أن يعترض عليه فيه، لأن الأنبياء لا يخضعون لضغط العادات المتبعة في حياة الناس، من خلال شرائعهم وتقاليدهم، في ما يحلّلون ويحرّمون، بل يخضعون للتشريع الإلهي الذي يعمل على إيجاد عاداتٍ وتقاليد جديدةٍ، منسجمةٍ مع مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} من الأنبياء السابقين الذين كانوا يؤكدون دعوتهم في سلوكهم، على خلاف الأعراف والتقاليد في كل ألوان الحياة في أممهم، ويعملون على أن يحرّكوا الموقف في ما يشبه الصدمة القوية المثيرة، من موقع قوّة الرسالة في مواقعهم، وتقوى الله في مواقفهم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاءً مقضيّاً، لا رجعة عنه ولا تردد فيه، بل هو الحسم الحاسم.

* * *

الأنبياء لا يخشون إلا الله

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} كما أمرهم الله بذلك من دون زيادةٍ ولا نقصان، ومن دون مراعاةٍ لمراكز القوى في المجتمع في تحدياتها القوية، {وَيَخْشَوْنَهُ} فيراقبون أقوالهم وأفعالهم بكل دقّة، في ما يشعرون به من رقابته التي تحيط بكل سرّهم وعلانيتهم، لأنه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي ما يعيشون فيه من مسؤوليتهم أمامه في الدعوة والحركة والموقع، فليس بينهم وبين تحمّل الصعاب ومقاساة الآلام، إلاَّ أن يدركوا أن رضاه في ذلك، ولذلك لم تسقطهم التحديات، ولم تهزمهم ضرائب التضحيات التي يقدمونها من أنفسهم وأهلهم وأموالهم، فهم الصابرون في خشيته، الصامدون في دعوته، الأقوياء في مواقع رضاه، {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} فلا ينظرون إلى غيره بنظرة الخوف والهيبة والتعظيم، مهما كانت قوّتهم ومواقعهم في الحياة، لأنهم لا يرون لهم قوّةً ذاتيةً مستقلةً عن الله، فهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله، وهم يعملون على دعوة الناس إلى الإيمان بالتأكيد على أنّ الذين يدعون من دون الله عبادٌ أمثالهم، لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون، ولذلك كانوا يواجهونهم بالكلمة الحكيمة القوية التي تدخل العقول والقلوب من أبواب واسعةٍ مفتوحةٍ، وتسيطر على المشاعر والنفوس باللهجة القوية الحاسمة، لأنهم لا يتحركون في ساحة الدعوة والمواجهة من خلال صفتهم الذاتية، بل من خلال صفتهم الرسالية المرتبطة بالله. ولذلك كانوا لا يعرفون التراجع في دعوتهم ولا الاهتزاز في خطواتهم، ولا التردد في مواقفهم، بل كانوا الحاسمين الواثقين الثابتين المنطلقين نحو الهدف الكبير في ذلك كله.

* * *

لا تنافي بين الخوف من الله والخوف من ظروف الواقع

وقد لا يتنافى هذا الذي ذكرناه من عدم الخشية من الناس في تبليغ الدعوة وفي ثبات الموقف، مع الوسائل التي كانوا يتخذونها، والحذر الذي كانوا يحيطون به أنفسهم، أمام خطط الأعداء الذين كانوا يعملون على التخطيط لقتلهم، أو الإجهاز على دعوتهم، فيخافون من ذلك ويتقونه، خوف الحذر الذي يعمل للتخلص من مواقع الخوف، واتّقاء الإنسان العاقل الذي يواجه تحديات الآخرين بتخطيطٍ مضادٍ، في ما ينعزل به عنهم في بعض المواقع، وفي ما يفر منهم في بعض الحالات، كما في قول موسى(ع) في ما نقله الله عنه: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21]، وقوله تعالى في ما نقله عن النبي محمد(ص): {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ} [الأنفال:58]. فإنه الخوف في حركة الدعوة لمواجهة أخطارها، وليس الخوف بعيداً عنها للتفلت من مسؤوليتها.

{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} فهو الذي يحاسب عباده، سواء كانوا رسلاً أو كانوا غير ذلك، على كل ما عملوا به في دعوته وطاعته، على أساس مسؤوليتهم أمامه عن ذلك كله، وهو الذي يعطي الثواب على ما قاموا به من أعمال الخير، ويُنزل العقاب على المتحركين في مواقع الشرّ، مما لا يملكه أحد غيره، فيجب أن يُخشى ولا يخشى غيره.

* * *

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ} فلم تكن صفته بينكم هي صفة الأبوّة لزيد أو لغيره لتعترضوا في زواجه بأنه تزوّج زوجة ابنه، لأن التبني في الرعاية والحفظ والحماية لا يمنحه تلك الصفة. هذا هو التفسير الذي درج عليه المفسرون، ولكن قد نستطيع الاستيحاء من الآية بأن علاقة النبي بالناس ليست هي علاقة النسب التي تصل الابن بأبيه، أو نحو ذلك، لتتحدد أوضاعهم معه بذلك، بل هي علاقة الرسالة، فهو لا يملك صفة الأُبوّة فيهم {وَلَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فلا بد له من أن يتحرك معهم من هذا الموقع، وفي هذا الخط، ولا بد لهم من أن يرتبطوا به من خلال هذه الصفة، فتكون علاقتهم به علاقةً رسالية، ليتطلعوا إلى صفاته الرسالية قبل أن يتطلعوا إلى صفاته الشخصية، ولا يكون النسب أساساً للتقييم في ارتباطهم به فيمن يتصلون به بصلة النسب، بل يكون العمل المرتبط برسالته هو الأساس في معنى القيمة في حياتهم.

أمّا صفة خاتم النبيين، فالظاهر أن المراد بها أنّه هو النبيّ الذي يختم خط النبوّة الذي ابتدأ من آدم، لينتهي به، وقد ورد ذلك، في ما روي عن جابر بن عبد الله عن النبي محمد(صلى الله عليه وسلّم) قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلاَّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلّم): فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء، أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما[2].

وهناك رواية أخرى رواها السيوطي في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلميّ قال: كنت أقرىء الحسن والحسين، فمر بي علي بن أبي طالب وأنا أقرئهما، فقال لي: أقرئهما {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بفتح التاء[3].

والرواية الأولى أقرب وأشهر، لأن التعبير عن النبي بأنه خاتمهم بمعنى زينتهم، كما هو الخاتم من مظاهر الزينة، غير مألوف ـ على الظاهر ـ والله العالم.

{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً} وهو الذي يبلغكم ما علمه، فانفتحوا على آياته وانطلقوا مع كل ما يبينه لكم من أمور معاشكم ومعادكم.

ــــــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور،م:6، ص:610.

(2) صحيح مسلم، ج:15، ص:52.

(3) الدر المنثور، م:6، ص:618.