تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 56 إلى الآية 58

 من الآية 56 الى الآية 58

الآيــات

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلاِئكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً* إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (56ـ58).

* * *

الصلاة على النبي أسلوب من أساليب الاحترام والتكريم

قد يكون الاحترام للشخصية النبوية في موقعها الرسالي، وفي صفاتها القيادية، عنصراً أساسياً في ارتباط الناس بها، وذلك في ما يثيره من تفاعل بأفكارها وسلوكها، وملامحها الأخلاقية، وأساليبها العملية، انطلاقاً من الانجذاب النفسي الذي يؤدي إلى الانجذاب العملي.

وعلى ضوء ذلك، جاء القرآن ليثير بعض الأساليب العملية، في تأكيد احترام الناس للنبي، بالطريقة التي لا تصنع بينه وبينهم حاجزاً نفسياً أو خارجياً، بل تعمل على إبعاد الوضع عن الوصول إلى المستوى الذي يؤدّي إلى الاستهانة بحقه، وفقدان الاحترام له في طريقة التخاطب والتعامل، وهذا ما لاحظناه في بعض التشريعات المتقدمة.

وفي هذه الآيات نوعٌ من التكريم المستمر للنبي بطريقة الصلاة عليه في كل وقت، في ما لم يكن مألوفاً لديهم من حيث أسلوب الاحترام، كما أن هناك حملةً على الذين يسيئون إلى الرسول كما يسيئون إلى الله في كلماتهم وأعمالهم، وعلى الذين يسيئون إلى المؤمنين والمؤمنات، باعتبار أن المسألة تمثل إساءةً للإسلام كله، وللإيمان كله.

* * *

الصلاة والسلام على النبي(ص)

{إِنَّ اللَّهَ وَملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وهي من الله الرحمة وإعلاء الدرجة والرضوان، في ما يمثله ذلك من عطفٍ وعنايةٍ وتكريمٍ وتشريفٍ، ومن الملائكة التزكية والاستغفار {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} في ما تمثله الصلاة عندكم من الدعاء الدائم له بالرحمة الإلهية، والرضوان في دار النعيم، كأسلوب من أساليب التكريم المتحرك في مشاعر النفس التي تتلهف حبّاً له في ابتهال الدعاء بين يدي الله، وفي تمتمات الشفاه في ما تعبّر به من كلمات الصلاة التي تطلّ على أكثر من معنى يتصل بالله، وينطلق من مواقع الرسالة في الحياة {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} عليه، في ما يمثله التسليم من إطلاق التحية على النبي في حياته، في حضوره وغيبته وبعد وفاته، في حياته عند الله، لأن الله يريد من المؤمنين أن يعيشوا معه، ويشعروا بحضوره بينهم في رسالته، وحضورهم معه في التزامهم بالخط العملي الذي يتحركون فيه، وقد يكون في حديث الله عن صلاتهم المقرونة بصلاته وصلاة ملائكته على النبي، بعض الإيحاء بأن للمؤمنين الدرجة الكبيرة عند الله في ما يلتزمونه من موقفٍ يمتد من وحي فعله في مواقع رضوانه، وفي ما يثيرونه في أنفسهم من مشاعر الانفتاح على الله في كل ما يفيضون فيه من أقوال وأفعال.

وجاء في تفسير الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله، أمّا السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد[1].

* * *

جزاء الذين يؤذون الله ورسوله

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من خلال كلماتهم الحاقدة المؤذية، وحركاتهم المعادية المنكرة، في ما يكون فيه تمرّدٌ على مقامهما، واجتراءٌ على مكانتهما، وتجاوزٌ للحدود المرسومة لهم، في ما يجب لهما من حقوقٍ على الناس، وبذلك لم يكن الإيذاء حالةً انفعاليةً، ليتساءل البعض عن استحالة إيذاء الله، لأنه منزّهٌ عن أن يناله الأذى وكل ما فيه وصمة النقص والهوان، فإن المقصود التكلم بما يمس مقامه العظيم، أو العمل بما يسيء إليه، على سبيل المحاكاة لما يصدق على ما لدى الآخرين {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ} وذلك بإبعادهم عن مواقع رحمته، وعن آفاق مغفرته ورضوانه، لأنهم أخرجوا أنفسهم منها وابتعدوا عنها، عندما انحرفوا عن خط الالتزام بالله ورسوله في مواقع محبته ورضاه، فليس لهم موقعٌ من التكريم والاحترام في الدنيا، وليس لهم مجال من المغفرة والرحمة في الآخرة.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} مما يضيف إلى الطرد المعنوي، العقوبة المادية الجسدية التي تمثل الاستهانة بهم، وإهانتهم في الآخرة في درجات الجحيم.

* * *

إيذاء المؤمنين والمؤمنات

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} فلم يصدر منهم أيّ عمل يستحقون به الإيذاء من قتل أو جراحةٍ أو سبابٍ أو إيذاء في أهل أو مال أو ولد، بل كان سلوكهم معهم سلوكاً طبيعياً لا يصدر عنه أيّة ردّة فعل في أيّ أمرٍ من أمور الناس {فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} في ما يعنيه البهتان من الافتراء والكذب على الغير الذي يواجهه به، فكأن المؤذي يدّعي وجود سبب للإيذاء صادر عن الشخص الآخر من موقع موقفه، فينسب إليه جرماً بغير حق {وَإِثْماً مُّبِيناً} لأنه ظلم واضح لا مجال للاعتذار عنه من قريب أو من بعيد.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، م:6، ص:647.