تفسير القرآن
الأحزاب / من الآية 59 إلى الآية 62

 من الآية 59 الى الآية 62

الآيــات

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً* لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً* مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (59ـ62).

* * *

معاني المفردات

{جَلابِيبِهِنَّ}: الجلباب: خمار المرأة الذي يغطي رأسها ووجهها.

{وَالْمُرْجِفُونَ}: الإرجاف: إشاعة الباطل للاغتمام به، وإلقاء الاضطراب بسببه.

{لَنُغْرِيَنَّكَ}: الإغراء بالفعل: التحريض عليه.

* * *

آيات تشريع الحجاب

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} والجلباب، ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها، أو الخمار الذي تغطي به رأسها ووجهها، والمطلوب هو إسدال الجلباب على البدن وتقريبه منه كناية عن الستر {ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وقد فسره البعض، بأن ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالعفة والصلاح والستر والحجاب، فيحترمهن أهل الفسق، فلا يتعرضون لهن كما يتعرضون لغيرهنّ من النساء غير العفيفات. وربّما كان المعنى أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر، ولسن من الإِماء، أو من الكتابيات اللاتي لا يتقيدن بما تتقيد به المسلمات من السلوك المتزن القائم على العفّة والإيمان. وقد يكون المعنى، أن يكون ذلك زَيَّاً معيَّناً يتميزن به عن غيرهن، للتمييز بينهن وبين غير المسلمات.

* * *

الغاية من هذا التشريع

وقد يخطر بالبال، أنّ حكمة هذا التشريع لم تنطلق من عمق المصلحة الكامنة في علاقة هذا الزي بالأخلاق، بل انطلقت من مراعاة حالةٍ طارئةٍ في مجتمع المدينة الذي كان يخضع لسلوك بعض الشباب العابث الذي لا يحترم النساء، فيراودهن عن أنفسهن بتخيّل أنهن من العابثات، باعتبار أن الزيّ واحدٌ لا تختلف فيه إحداهنّ عن الأخرى، فكان من اللازم أن يُفرض للمؤمنات من نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين زيٌّ إسلامي يتميزن به عن الأخريات من الكتابيات والإماء، ليبتعدن بذلك عن الأذى، لما يعرفه هؤلاء الشباب من صلابة الإسلام في مواجهة هذا العبث، بقدر ما يتصل بالمؤمنات، فيمنعهم ذلك عن السلوك السلبي تجاههن، فيكون هذا الأمر، كما هو الأمر المرويّ في كلام الإمام علي(ع) عندما سأله بعض الناس عن قول الرسول(ص): غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود، فقال(ع): إنما قال(ص) : كان ذلك والإسلام قُلّ، فأمَّا الان... فامرؤٌ وما اختار[1]، ما يوحي بأنه تشريعٌ ظرفيٌّ يراد به تميّز المسلمين عن اليهود في المجتمع المختلط لبعض المصالح التي تتصل بالملامح الشخصية للمسلمين.

وعلى ضوء ذلك، فلا تكون الآية من آيات الحجاب الملزم، بلحاظ أن الأمر يدلّ على الوجوب، فإن الفقرة الثانية قد تصلح دليلاً على عدم إرادة الإلزام في ذلك، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} يغفر للمذنبين، ويرحم المؤمنين.

وقد جاء في تفسير القمي في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} فإنه كان سبب نزولها أن النساء كنّ يخرجن إلى المسجد ويصلين خلف رسول الله(ص)، فإذا كان الليل وخرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرضون لهن»[2].

وفي الدر المنثور، «بإسناده عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سودٍ يلبسنها»[3].

* * *

القرآن يهدِّد المنافقين والمرجفين بالعقاب

{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَض} من أولئك الذين يعيشون العقدة النفسية ضد الإسلام والمسلمين، والازدواجية بين ما يظهرون من الإيمان وما يبطنون من الكفر {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} الذين يعملون على بثّ الإشاعات وإثارة الأقاويل التي تضعف العزيمة، وتشيع الفساد، وتثير الفتن، وتنشر الأضاليل والأباطيل، لتحويل المجتمع إلى ساحةٍ مهزوزة لا يتماسك فيها الموقف، ولا يثبت فيها الموقع، مما هو موجودٌ في كل مكان وزمان، حتى تحوّل في عصرنا إلى فنٍّ قائمٍ بذاته، في ما تعارف عليه الناس من «الحرب النفسية» التي يشنها المرجفون من العاملين في أجهزة المخابرات والإذاعة والصحافة والوسائل بأسلحتهم الإعلامية قبل أن تدخل في ساحة الصراع في الحرب الحارة.

وهكذا أراد الله أن يحذر هؤلاء الذين كانوا منتشرين في المدينة ليخلقوا المشاكل للنبيّ في خط الدعوة وخط الجهاد وإدارة المجتمع، ويهدّدهم للمرّة الأخيرة، لئن لم يمتنعوا عما هم فيه من الإرجاف والإفساد {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنحرضنك عليهم وندفعك إلى ضربهم والقضاء على مواقع قوّتهم، وإلى إخراجهم من المدينة {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} وهي المدّة التي تفصل بين إصدار الأمر وتنفيذه.

وقد نستطيع استيحاء الحكم الشرعي من هذه الآية في ضرب الأجهزة التي تثير الأقاويل والإشاعات الكاذبة، وتعمل على إضعاف المجتمع عن طريق الإعلام المنحرف الذي يخطط لتنفيذ مؤامرات الأعداء ضد الإسلام والمسلمين، وفي نفيهم خارج البلاد.

{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} أي أينما وجدوا {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} فهذا هو الحكم الشرعي الذي ينبغي أن ينفذ فيهم ليجتث الجذور الفاسدة من المجتمع، التي إذا بقيت أهلكت المجتمع كله، ولم ينفع معها أيّ دواء.

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} فقد كان الله يمهل الكافرين والمنافقين والمرجفين مدةً من الزمن ليتوبوا وليرجعوا إليه، وليتركوا ما هم فيه من الضلال والإضلال، ثم يقضي عليهم بكل قوّة لينقذ المجتمع منهم، بطريقة العذاب النازل من السماء، أو البلاء الذي يحيط بهم من كل جانب، أو التشريع الذي تنفذه السلطة الشرعية القادرة فيهم.

{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لأن سنن الله في الكون والمجتمعات، لا تخضع لأوضاع طارئة لتكون شريعة مرحلةٍ معينة من الزمن، بل تخضع للمصلحة العامة المتحركة مع المسيرة المستمرة الممتدّة في الحياة في حركة المجتمعات في ما يصلحها ويفسدها، فلن تتبدّل ولن تتغير، لأن معنى ذلك، أن الله يترك الفساد لكي يمتد ويتجذّر في الواقع ليقضي على الحياة كلها.

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم: 17، ص:357.

(2) تفسير الميزان، ج:16، ص: 350ـ351.

(3) الدر المنثور، م:6، ص:659.