من الآية 72 الى الآية 73
الآيتـان
{إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً* لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (72ـ73).
* * *
الأمانة التي حملها الإنسان
{إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ} ما هي الأمانة التي عرضها الله على هذه المخلوقات الكبيرة الضخمة الجامدة، وكيف هو هذا العرض؟
اختلف في تفسيرها على أقوال:
فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنة ومعصيتها دخول النار، والمراد بعرضها على السماوات والأرض والجبال، اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها. وقيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف ومناط الثواب والعقاب.
وقيل: هي قول لا إله إلا الله.
وقيل: هي الأعضاء؛ فالعين أمانة من الله يجب حفظها وعدم استعمالها إلا في ما يرتضيه الله تعالى، وكذلك السمع واليد والرجل والفرج واللسان.
وقيل: المراد بها أمانات الناس والوفاء بالعهود.
وقيل: المراد بها معرفة الله بما فيها.
والظاهر أن المراد بها المسؤولية التي يتحملها الإنسان في ما يقوم به من أعمال وأقوال، باعتبار أنها التي تتصل بالنتائج السلبية التي يخاف الإنسان من خلالها أن يتعرض لعقاب الله، وهي التي يمكن أن يعرضها الله على مخلوقاته، بأن تتحمل مسؤولية نفسها، فتدير أوضاعها وتتحرك من موقعها الإِرادي، وهذا هو المعقول في ذلك كله.
وعلى هذا، فيكون العرض وارداً بنحو الاستعارة، بحيث تكون الفكرة أن المسؤولية التي يتحملها الإنسان، في ما يواجهه من النتائج أمام الله، هي من الثقل بحيث لو عرضها الله على هذه المخلوقات لرفضتها خوفاً منها، فنزل ذلك منزلة العرض الواقعي، {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لما يترتب على ذلك من العقاب الإِلهي على الانحراف عن أوامر الله ونواهيه مما لا يستطيع مخلوق أن يتحمّله أو يقبله، على ما جاء في دعاء كميل للإمام علي(ع): «لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي، فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين»، وقد نستوحي ذلك من قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلاَْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت:11]، بإرجاع الأمر إلى الله على أساس القوانين الكونية التي تتحرك من خلالها طوعاً لإِرادة الله في ذلك كله {وَحَمَلَهَا الإِنْسَان} في ما أودعه الله في الإنسان من عوامل الإِرادة والاختيار، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} فلم يقم بما يجب عليه منها، بل ظلم نفسه بانحرافه عن الخط، وجهل موقعه ومرجعه بغفلته، وهذا هو الظاهر منها، خلافاً لما فهمه البعض بأن حمل الإنسان للأمانة كان ناشئاً من ظلمه لنفسه وجهله بنتائج ما يختاره ويتحمله من المسؤولية.
{لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} على ما ظلموا به أنفسهم من النفاق والضلال والشرك، في ما يمثله ذلك من خيانة للأمانة {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الذين أخلصوا لله وحفظوا الأمانة في أنفسهم وفيمن حولهم {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} لمن رجع إليه، وتاب وعمل صالحاً واهتدى به.
تفسير القرآن