تفسير القرآن
فاطر / من الآية 6 إلى الآية 8

 من الآية 6 الى الآية 8
 

الآيــات

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ* الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ* أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (6ـ8).

* * *

الشيطان عدو الإنسان

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} لأنه يعيش العقدة المتأصِّلة في شخصيته ضد آدم وولده، من موقع الكبر والحسد، اللذين تحوّلا إلى حالةٍ من الحقد العدواني، فعمل على إخراج آدم وزوجه من الجنّة، وأعلن لله، بعد أن أخذ الوعد بالخلود في الدنيا، بأنه سيمنع بني آدم من سلوك الطريق المستقيم، وسيستخدم كل وسائله في هذا السبيل، وسيحيط بهم من كل الجهات، حتى يحاصرهم بأضاليله فلا يستطيعون هروباً منه، وسيؤثر على مصالحهم في الدنيا ومصيرهم في الآخرة، ليحطّم كل وجودهم الروحي والمادي المتوازن المنفتح على آفاق الله، فأيّة عداوةٍ أعظم من هذه العداوة؟ فلا تغفلوا عنه، في أيّة لحظةٍ، وفي أيّ موقع، ولا تتخذوه صديقاً عندما يزيّن لكم شهوات الحسّ، ويصوّر زخارف الحياة الدنيا، لأن الصداقة والعداوة لا تخضعان لظواهر الأمور التي تستلذها الحواس، بل تخضعان لبواطنها ونتائجها، بما تختزنه الروح ويرضى به العقل. فإذا عرفتم هذه العداوة المعقَّدة {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} وتعاملوا معه باليقظة المنفتحة على كل ما حولكم ومن حولكم، كي لا ينحرف بكم عن الخط المستقيم، ولا تهتز مشاعركم أمام ما يبثه من عناصر الإثارة، ولا تسقط مواقفكم عندما يوحي بالانحراف والضلال. وحاولوا أن تدرسوا النتائج الأخيرة التي تنتهي إليها كل مخططاته وإيحاءاته، في كل ما يدعو إليه، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} من كل هذه الجماعات التي تطيعه وتخضع له، وتنفذ كل خططه {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} من خلال ما يقودهم إليه من الأعمال التي يستحقون بها عذاب النار.

{الَّذِينَ كَفَرُواْ} من هؤلاء الذين أضلهم الشيطان وانحرفوا في التصور والعقيدة، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} على كفرهم الذي لم ينطلقوا فيه من حجة، ولم يرتكزوا فيه على قاعدةٍ {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لأخطائهم بعد أن تراجعوا عنها، وهم في رضوان الله {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} على ما قاموا به من الأعمال الصالحة والجهاد الكبير.

* * *

أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً

{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ} من هؤلاء الذين يستغرقون في الخط الذي يلتزمونه، بما يختزنه من فكرٍ أو تصوّر، ويتمسكون بما يرثونه من أفكارٍ، فيضيفون إليها الكثير من مشاعرهم الذاتية أو مصالحهم الخاصة، مما يكسبها بعض الإشراق والجمال والحلاوة، الأمر الذي يبعد هؤلاء عن رؤية الفكر الآخر والخط الآخر، ولا شك أن مثل هذا الاستغراق الشامل يمنع الإنسان من أن يحتمل أي فكر غير صحيح، وهذا يجعله يرى العمل السيّىء المملوء بالعناصر السيئة بأفضل صورة، وهكذا نلمح من خلال ذلك الإنسان الضال الذي زُيّن له عمله من خلال استغراقه فيه بسبب ضيق الأفق أو التزيين المنحرف من شياطين الإنس والجن، {فَرَآهُ حَسَناً} فلم يقبل أيّ نقدٍ، ولم يتقبل أيّة مناقشة، بل قد يتعقد من الناقدين لعمله أو لفكره، فيرى فيهم الأعداء الذين يبغضونه ويكيدون له، ولذلك فإنه لا يرضى بالاستماع إليهم مهما كانت الأمور، ومهما كانت درجتهم من العلم والمعرفة والصلاح.

* * *

ليكن لكم الأفق الرحب

وهذا ما ينبغي للعاملين في حقول التوعية الإسلامية، أو في مجالات العمل السياسي والاجتماعي، أن يفكروا فيه ويثيروه في ساحات عملهم، وفي مواقع فكرهم، ليبقى للإنسان الأفق الرحب الذي يلاحق الاحتمال المضادّ على الصعيدين الفكري والعملي، ولو في دائرة الوهم، ليدرس فكره من خلاله، ويناقش موقفه على أساسه، ويسمح للآخرين أن يواجهوه بذلك بما يملكونه من وجهة نظرٍ متّصلةٍ بالخط الفكري والعملي الذي يلتزمه في حياته..

* * *

النظرية الإسلامية في النقد الذاتي

ما تقدم هو الأساس في النظرية الإسلامية التي تؤكد على محاسبة النفس ومراقبتها في حركة النقد الذاتي، في داخل الفرد أو المجتمع، من أجل أن يبقى الإنسان سائراً في خط التكامل الأخلاقي والفكري الذي يدرس ـ دائماً ـ نقاط الضعف والقوة في شخصيته، ليقوم بعملية المقارنة بينها، ليقلّل من نقاط الضعف إذا لم يستطع أن يلغيها، ويكثر من نقاط القوّة ما أمكنه ذلك، وهذا ما ألمحت إليه الأحاديث التي تتحدث عن أن نفس المؤمن ظنونٌ عنده، وأنه ينبغي أن لا يُخرج المؤمن نفسه من حدّ التقصير.

وهكذا تحدثت الآية في معرض التساؤل عن الذي زيّن له سوء عمله فرآه حسناً، لتستثير في الذهن صورة الفريق الآخر الذي عرف عمله في طبيعته الواقعية وحجمه الطبيعي، فرآه كما هو، فيرى السيّىء سيِّئاً والحسن حسناً في ميزان التقييم الواقعي للأشياء، وليعرف الإنسان أنهما لا يستويان عند الله، لأن الأول يتخبط في وحول الضلال، بينما ينطلق الثاني في الطريق المستقيم المنفتح على هدى الله.

* * *

عدم التحسر على القوم الكافرين

{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} من خلال ما أودعه الله في الحياة من أسباب الضلال التي يختارها الإنسان {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} بتهيئته أسباب الهدى التي يوفّق الإنسان للأخذ بها من موقع الإرادة الواعية المنفتحة على الخير كله وعلى الحق كله.

{فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} في ما تعيشه من الرحمة الروحية والعاطفة القلبية، إزاء هؤلاء الذين ينطلقون في خط الضلال باختيارهم، لأنهم لم ينفتحوا على الهدى النازل من الله، ولأنهم سيواجهون غضبه وسخطه وعقابه يوم القيامة، فلا تعش الغم والهم وحسرة الروح عليهم، لأن القوم هم الذين اختاروا لأنفسهم هذا المصير عندما تمردوا على الله، وهم قادرون على الانسجام مع وحيه والطاعة لرسله، والالتزام برسالته، فلا يستحقون رأفتك واهتمامك.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فهو المطّلع عليهم في كل ما فكروا به وما قالوه وعملوه، مما يستحقون به الكثير من عقابه، فلا يعاقبهم إلا بالحق، ولا يجازيهم إلا به.

* * *

كيف نستوحي الآية؟

وقد نستوحي من هذه الآية، أن النبي(ص) كان يعيش الحزن الرسالي في نفسه، لابتعاد هؤلاء عن الإيمان وخروجهم ـ بذلك ـ عن مواقع رحمة الله، ما ينعكس سلباً على مصيرهم في الآخرة، فكانت هذه الآية من أجل أن لا يثقل ذلك قلبه الكبير، عبر الإيحاء له بأن الحزن على الناس الضالّين، قد يكون حالةً إنسانيّةً عميقةً طاهرةً تدلُ على الغنى الإنساني في العاطفة لدى الإنسان الداعية، ولكنّ هؤلاء ليسوا في هذا المستوى الجدير بالعطف، لأنهم كانوا في موقع الإساءة المتعمّدة إلى الله وإلى أنفسهم وإلى الحياة بعد أن قامت الحجة عليهم في ذلك كله.