من الآية 9 الى الآية 11
الآيــات
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ* مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكلمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَـئِكَ هُوَ يَبُورُ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (9ـ11).
* * *
معاني المفردات
{يَبُورُ}: من البوار وهو الهلاك.
{أَزْوَاجاً}: أصنافاً ذكوراً وإناثاً.
{مُّعَمَّرٍ}: من طال عمره.
* * *
إحياء الله الأرض بالماء
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} وفق ما أودعه الله في القانون الطبيعي لتكوّن السحاب المثقل بالماء {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} في عملية توزيع الوظائف الكونية للموجودات حسب مقتضى الحكمة الإلهية في الرزق في جانبي الخصب والجدب في الأرض، حيث يريد الله أن يرزق بعض البلاد أو يحرمها منه، فيحيي أرضاً بعد موت، كما يُبقي أرضاً على موتها الزراعي، فلا تنبض فيها حياة البذور ولا تتفتح فيها الثمار، فللأرض موتٌ وحياةٌ كما هو الإنسان في موته وحياته، وهكذا يحيي الله الأرض بعد أن تموت بسبب الجفاف، أو بسبب آخر {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فيكون في ذلك بعثٌ جديدٌ للحياة في الأرض، فتتولد الحياة في البذور ويهتز النبات، ما يوحي بفكرة البعث بطريقةٍ حسيةٍ يمكن للإنسان أن يستشرف منها المعنى العميق في إمكانية بعث الحياة بعد الموت في الإنسان، و {كَذَلِكَ النُّشُورُ} فهو الصورة الحية للإحياء الطبيعي المتحرك بقدرة الله في الأرض التي توحي بإمكان صورة مماثلةٍ لإحياءِ الإنسان بعد الموت، لأن الموت هو الموت، والحياة هي الحياة، من دون فرقٍ بين الأشياء في ذلك كله.
وهذا الذي يمثل قدرة الله وسيطرته على عمق الحياة في الكون كله في عالم الإيجاد وعالم البعث، ما يجعل الأمور كلها مرتبطةً به وخاضعةً له، باعتباره المصدر الوحيد للقوة على مستوى حركة الجسد والروح في الجانب المادي أو المعنوي، فلا قوّة لأيّ مخلوق في ذاته، وهذا ما تريد الآية التالية أن تؤكده وتثيره أمام الكثيرين من الناس الذين يعبدون غير الله ويرتبطون به، ويتركون طاعة الله وعبادته، طلباً للعزة التي يملكها هؤلاء الشركاء المزعومون، في ما يملكون من قوّةٍ ومالٍ وجاهٍ وسلطان، في استغراقهم في الجانب الحسي المباشر، وابتعادهم عن الوعي العميق النافذ إلى حقائق الأشياء.
* * *
العزة لله جميعاً
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} بما تفيده من القوّة المادية والمعنوية التي تثبِّت المواقع في الحياة والناس بشكل صلب لا يهتز ولا يُغلب ولا يُقهر، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فهو الذي يملك كل مواقع القوّة في الأرض والسماء، فله كل شيء، ولا يملك أحدٌ معه شيئاً، فكل الأشياء خاضعةٌ له، بتكوينها الذاتي الذي يستمد قوته منه ـ وحده ـ، ولا استمساك لشيءٍ في مواقع الثبات والصلابة إلا به. فمن طلب القوّة فليطلبها منه، ومن طلب العزة فليطلبها منه، لأنّ من اعتز بغير الله ذلّ، لأن عزة الحق بذاته، وعزة غيره به، فلا معنى لأيّة عزةٍ إلا من خلال قدرته.
وهذه هي الروح التي يريد الله للناس المؤمنين أن يعيشوها في داخلهم بعمق ووعي وإيمان، ولا يتسنى لهم ذلك إلا في التفكير الدائم بعظمة الله ومواقع قدرته في رحاب الأرض والسماء، وفي تكوين الإنسان وسيطرته المطلقة عليه، ما يجعلهم يحتقرون غير الله عندما يستشعرون عظمته ـ سبحانه وتعالى ـ، كما قال الإمام علي أمير المؤمنين(ع) في صفة المتقين: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم»[1]، لتتوازن عندهم العقيدة، وتستقيم لهم حركة الإيمان في الحياة. ويتحرك التوحيد في شعورهم الداخلي، وفي الممارسة العملية، لأن قضية التوحيد تختزن في داخلها ارتباط تفاصيل الحياة بالله، تماماً كما هي الحياة التي ترتبط في تكوّنها بالله، وهذا ما استوحاه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه متفزّعاً إلى الله: «اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلِّي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمَّن لم يستغن عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفهٌ من رأيه وضَلَّةٌ من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازمٌ، وَفَّقهُ اعتبارُهُ وأرشده إلى طريق صوابه باختباره، فأنت ـ يا مولاي ـ دون كلِّ مسؤول موضعُ مسألتي، ودون كلِّ مطلوب إليه وليّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كلّ مدعوٍّ بدعوتي، لا يشركك أحد في رجائي، ولا يتفق أحدٌ معك في دعائي، ولا ينظمه وإيّاك ندائي..».
وهكذا نجد أن الله يريد أن يعمِّق الشعور بالحاجة إليه وحده، لينطلق المؤمن في الحياة مرتبطاً به، فيكون قوياً وعزيزاً بالله، معتقداً بأن هؤلاء الذين قد يغرونه باستمداد العزة منهم، يستمدون العزة من الله، فينطلق إلى أهدافه بكل قوّةٍ وطمأنينةٍ، فلا تكون العزة مجرد شعورٍ طارىءٍ يذهب لدى أيّة صدمة، أو أية وحشةٍ في حركة العناصر الطارئة للقوّة في حياته.
* * *
قبول الله الكلم الطيب والعمل الصالح
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الذي يحمل في مضمونه الحق في العقيدة، وفي المفهوم الكلي لقضايا الحياة، وفي مفاهيم المفردات الجزئية لتفاصيل الواقع، فإن الله يتقبل الكلام الطيب المعبّر عن روحية الإنسان، المنطلق من مواقع الصدق في فكره وشعوره وموقفه، ويعطي الإنسان أجره على ذلك. وهذا ما توحي به كلمة الصعود إليه، فهي كناية عن قبول الكلام الذي يتحرك في الحياة ليؤكد الحقّ، وليثير فيها ما ينفع الناس ويستقيم بهم في نهج العقيدة والعمل الصالح.
{وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} إليه، لأن العمل لا يبقى في الأرض ليكون مجرّد حركةٍ تنطلق في نشاط الناس ثم تموت في ذهاب الصورة وغياب الزمن، بل يرتفع إلى الله، بما فيه من نفع للإنسان والحياة في معناه الإيماني، وغايته التوحيدية، وروحيته الإنسانية الرسَّالية المتعلقة بالله، الخاضعة له. فالإنسان يكون عزيزاً عند الله، بمقدار ما يكون طيباً في كلامه، صالحاً في عمله، وهو ما يجعله في مواقع القرب لديه، لينال ـ بذلك ـ الحظوة عنده.
* * *
جزاء الذين يمكرون السيئات
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جزاءً على معاصي الله في حياتهم وحياة الآخرين، سواءٌ بارتكاب هذه المحرمات أو بظلم الآخرين من خلالها، وبذلك ينطلق تفكيرهم في اتجاه إثارة الحيل الخفية والظاهرة ضد سلامة الحياة لينحرفوا بها عن خط الرسالات المستقيم الذي يدعو الإنسان إلى الانطلاق مع الله في كل شيءٍ، ولهذا كان عذابهم شديداً، بمقدار النتائج السلبية التي يتمخض عنها مكرهم وضلالهم، {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} فلا يبقى منه شيء، لأنه لا يملك عمقاً في معنى الحياة الباحثة عما يحقق لها النتائج الإيجابية بفعل الحق الكامن في وجودها، ما يجعل من الباطل حالةً طارئةً قد تكتسب القوّة من بعض الظروف والقوى المتحركة حولها، ولكنها سرعان ما تموت وتتبخر أمام قوّة الحق القادمة من الله.
* * *
الله خلقكم من تراب
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}، فآدم الذي تناسل الخلق منه هو من تراب، أو أن مصدر النطفة من الغذاء كان تراباً فتحوّل إلى دم، {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} تحمل في داخلها سرّ الحياة بقدرته، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} فخلق من هذه النطفة التي لا تتميز بشيء في شكلها، ذكوراً وإناثاً، وقيل: أصنافاً بيضاً وسوداً، وربما كان المراد الزوجية من كل الجهات. فهو الذي خلق ذلك كله، وهو المسيطر على حركة الخلق كله، وهو المحيط بكل تفاصيله. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} فهو الذي حدّد للحمل سرّه ووقته، وهو الذي وضع له قانون النمو والتكامل حتى يحين موعده الذي يحيط به بعيداً عن كل الأسباب المادية التي قد يُطلع عليها بعض عباده، فيعلمون ما أراد لهم أن يعلموه.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} يطيل به العمر الذي قد يمتد إلى زمن طويل يصل إلى الشيخوخة، {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}، بحيث ينتهي في وقت مبكر، كما في وقت الصبا أو الشباب {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} الظاهر أن المراد به الكناية عن علم الله، باعتبار أن الكتاب يمثل مستودع العلم، وربما كان المراد به اللوح المحفوظ الذي كتب فيه آجال الخلق التي لا تتغير، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لأن قدرة الله تتناول الكليات والجزئيات بما يدبره الله منها بكل دقّة وإتقان، كما أن علم الله الذي لا حدّ له يحيط بذلك كله، لأن خالق الأشياء لا بد من أن يحيط بها في كل مجال.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ابن أبي طالب، علي(ع)، نهج البلاغة، ضبط نصه د.صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، ط:2/1982م، ص:303، خطبة:193.
تفسير القرآن