من الآية 15 الى الآية 26
الآيــات
{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ* وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ* وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ* وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ* إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ* وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ* ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (15ـ26).
* * *
معاني المفردات
{وِزْرَ}: الذنب.
{مُثْقَلَةٌ}: المثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب.
{يَسْتَوِي}: استوى هذا وذاك أي هما سواء أو على سوية.
{الظِّلُّ}: الفيء.
{الْحَرُورُ}: الريح الحارة.
* * *
الفقراء إلى الله
{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ} بكل مفردات الفقر ومعانيه ومواقعه، لأنكم في حاجة إليه في وجودكم، لأنه سبب الوجود، وفي استمراره بكل العناصر التي تؤمّن ذلك في ما تتوقف عليه الحياة من عناصر وشروط، سواءٌ في ذلك الأسباب المباشرة أو غير المباشرة، فلا يمكن لكم أن تتصوروا لحظةً واحدةً تعيشون فيها الغنى عن الله، لأن حاجتكم إليه تتحرك في مجرى الدماء في عروقكم، وفي حركة الهواء في أنفاسكم، وفي طبيعة الأجهزة المختلفة التي تتحرك وفق تدبير الله في أجسادكم، وفي كل شيء يحيط بكم ويعيش معكم، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ}، فهو الغني بذاته لاستغنائه عن كل شيء، لأنه خالق كل شيءٍ، وهو المحمود في كل أفعاله وصفاته.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا هو المظهر الحيّ لغناه عنكم وحاجتكم إليه، فإذا تعلقت إرادته بزوالكم من الوجود كله، فلم يبق منكم أحد، فلن ينقص من ملكه شيء، لأنكم لا تمثلون شيئاً، ولن تنتهي قدرته وملكه بزوالكم، فهو القادر على أن يخلق خلقاً جديداً مثلكم، أو أعظم منكم، من دون أن يكلفه ذلك جهداً، ومن دون أن يزيد ذلك في غناه، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }، لأن قدرته تتسع لكل شيءٍ، فلا يعجزها أيّ شيء.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا يحمل شخصٌ أثقال ذنوب شخص آخر، ولا يحاسب البريء بذنب المجرم تحت تأثير أيّة علاقةٍ من قرابةٍ أو صداقةٍ أو غيرهما، ما لم يكن له دخلٌ في جريمته، وهذا هو الذي يعامل الله به عباده يوم القيامة، على أساس الفردية في المسؤولية في التبعة والجزاء، ما يفرض على الناس أن يحسبوا حساب ذلك في أعمالهم، وأن يطمئنوا لموقفهم غداً أمام ربهم، لأن الله لن يعاقبهم على ما قام به الآخرون من جرائم، {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فلا ينفع أحدٌ أحداً في ما تعنيه العلاقات الإنسانية، لأن كل شخصٍ مشغولٌ بنفسه، مهتمٌّ بما يحمله من أثقال ذنوبه، فلا مجال لديه للاهتمام بثقل غيره، ولهذا فلا بد لكل إنسانٍ من مواجهة مسؤوليته بالمستوى الذي يشعر فيه بأنه لا علاقة له بأحدٍ، فلا يحمل مسؤولية أحدٍ، ولا يحمل أحدٌ مسؤوليته.
{إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} من موقع الإيمان المنفتح على الغيب، وذلك عبر الانفتاح على النوافذ التي يطل منها على حقيقته، في ما يؤدِّي إليه العقل وتقود إليه الفطرة، ويتفاعل معه الوجدان في استبصار ما تدركه وسائل الحس من آثار تنفتح على آفاق الغيب الذي يلتقي بالله والوحي واليوم الآخر، {وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} التي تعبّر روحياً وحركيّاً عن فعالية هذا الإيمان في خضوعه لله، وخشوعه أمام ذكره، فهؤلاء هم الذين يفتحون قلوبهم للآيات التي تثير الشعور بالخوف الإيمانيّ من عقاب الله، فيدعوها ذلك إلى الانضباط في دائرة أوامره ونواهيه، وهؤلاء هم الجادّون في مسألة المصير، وقضية المسؤولية، ولذا فإنهم يلاحقون كل ما يدلهم على مواقع النجاة، ويجنبهم مواطن الهلاك.
{وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} لأن النتائج الإيجابية في رضوان الله ورحمته ونعيمه في الدار الآخرة لن يعود نفعها إلى النفس الزاكية التي تنعم بذلك العطاء الإلهي في نعيم الروح والجسد فحسب، ولا تقتصر النعمة على الدار الآخرة في ما يعود إلى الإنسان المؤمن من منافع، بل يجد في الدنيا الكثير مما يصلح أمره ويبعده عن الفساد، من خلال التشريع الذي لا يأمره إلا بمصلحة، ولا ينهاه إلا عن مفسدة. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} حيث يجتمع الناس لديه فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويعفو عمن يستحق العفو، ويرضى عمن يشاء الرضى عنه.
* * *
وما يستوي الكافر والمؤمن
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى} الذي لا يبصر طريقه، ما يجعله ضائعاً متخبطاً بين الدروب الملتوية والمسدودة، {وَالْبَصِيرُ} الذي يفتح عينيه على مواقع النور التي تدله على الطريق المستقيم الذي يصل به إلى الهدى، {وَلاَ الظُّلُمَاتُ} التي تطبق على الكون فتمنع الكائنات من رؤية ما حولها، {وَلاَ النُّورُ} الذي ينير بإشراقه كل المواقع، فيمنح الكائنات وضوح الرؤية للأشياء، {وَلاَ الظِّلُّ} الذي يعطي الناس الشعور بالبرودة التي تقيهم من لفح الهجير، {وَلاَ الْحَرُورُ} الذي هو شدة حرارة الشمس، وقيل هو السموم. {وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ} الذين تتحرك الحياة في كل عروقهم فتحرك فيهم الحسّ والشعور، {وَلاَ الأمْوَاتُ} الذين تحوّلوا إلى جمادٍ لا أثر للحياة فيه، فلا يحسّون بشيء ولا يعقلون شيئاً.
وهكذا توحي هذه الكلمات المتقابلة، والموجودات المختلفة، بما يماثلها في الوجود الإنساني وبما حوله، فالأعمى يماثل الكافر، والبصير يماثل المؤمن، لأن الكفر ضياعٌ وتخبطٌ وانحراف، أمّا الإيمان فهو استقامة وهدى واطمئنان، والظلمات هي شبهات الكفر وأضاليله وأوهامه، والنور هو الإسلام بعقيدته وشريعته ونهجه السويِّ، والظل هو الجوّ الروحي الوديع المنعش الذي يوحي بالدعة والسكينة، والحرور هو الشهوات المحرقة التي تتحول إلى لهيبٍ يحرق الحياة في داخل النفس، والأحياء هم المؤمنون المسلمون الذين فتحوا عقولهم وأسماعهم وأبصارهم على كلام الله، وتحرّكوا في الاتجاه السليم الذي ينطلق منه ويرجع إليه، والأموات هم الذين تجمّدت عقولهم، وتحجّرت مشاعرهم، فلم يلتقوا بالروح الإيمانية التي تتحرك في آفاق الوحي، لأنهم لا يعيشون نبض الحياة الشاعرة في أعماق ذواتهم، لذا لا بد للإنسان أن يستوحي المعنى من الكلمة، والروح من المادة، والفكرة من حركة الحياة.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} حيث يفتح القلوب والأسماع على كلماته، ويحيي القلوب بعد موتها بالإيمان، فيقيم عليها الحجة، ويهديها الصراط المستقيم. وهكذا نجد أن المؤمنين ـ وحدهم ـ هُمُ الذين يسمعون ويعقلون، أمّا غيرهم فهم كالأموات لا يسمعون شيئاً ولا يعقلون، لأنهم جمَّدوا أسماعهم عن الاستماع إلى كلام الله، وأماتوا حياة قلوبهم فلم تهتد إلى وحي الله، {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} وهم الكفار الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} فتلك هي مهمتك الأولى والأخيرة، أمَّا الهداية بالوسائل غير العادية التي تقتحم فيها قلوبهم بطريق المعجزة، أو تفتح فيها أسماعهم بطريق القهر، أمّا هذا، فليس من مهمتك، ولذلك فلا مجال لأن تتعقَّد من ضلالهم بعد أن أخذوا بأسباب الضلال، وابتعدوا عن أسباب الهدى والإيمان.
{إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} بثواب الله لمن أطاعه، {وَنَذِيراً} بعقاب الله لمن عصاه، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} لأن الله لم يترك أحداً من خلقه إلا وقد أقام عليه الحجة من خلال المنذرين الذين يرسلهم إلى الناس كافة، ولكن قد تقف الحواجز والموانع التي تمنعهم من الوصول لإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة، مما يضعه المستكبرون أمامهم من حواجز، فمن بلغته الرسالة فقد قامت عليه الحجة، ومن لم تبلغه الرسالة كان من المستضعفين الذين وكلهم الله إليه، {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الماضية {جاءتهمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} من الآيات المعجزة، والدلائل الواضحة {وَبِالزُّبُرِ} المتضمنة لذكر الله {وَبِالْكِتَـبِ الْمُنِيرِ } الذي يتضمن شرائع الله، كما يتضمن المفاهيم الكلية للعقيدة، {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بذلك كله، وكذبوا الأنبياء {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان عذابي الذي يمثل التجسيد الحي للإنكار عليهم.
تفسير القرآن