تفسير القرآن
فاطر / من الآية 41 إلى الآية 45

 من الآية 41 الى الآية 45
 

الآيــات

{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً* وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَآءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً* اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً* وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (41ـ45).

* * *

معاني المفردات

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: بالغوا واجتهدوا في الأيمان.

* * *

الله ممسك السموات والأرض أن تزولا

كيف يفكر هؤلاء الذين يجعلون لله شريكاً، وهل يدركون مدى قدرة الله، وهل يعرفون كيف يدبّر الله الكون كله بإرادته من دون معين؟ هل يتطلعون إلى السماء من فوقهم، وإلى الأرض من تحتهم، فيتأملوا كيف تثبتت السماوات في الفضاء، وكيف استقرت الأرض في الخلاء، ومن الذي أمسكهما عن الاهتزاز والسقوط، ومن الذي يعيدهما إلى الثبات لو زالتا؟ هل فكر هؤلاء بالمسألة العقيدية من ناحية التوحيد والشرك بوعي وعقلٍ؟

إن الآية التالية تقرر الحقيقة التوحيدية التي تثبت قدرة الله على الإمساك بالسماوات والأرض وحده، وتتضمن طرح السؤال الذي لا يجد جواباً عند هؤلاء إلا بتقرير الحقيقة من جديد.

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} عن موقعهما الذي يتحركان أو يستقران فيه، وقد استمرت الحياة منذ كانت السماوات والأرض، ولا تملك البشرية الملامح الحقيقية لهذا التاريخ إلا بالحدس والتخمين القائم على الخيال العلمي الذي يحاول أن يستنتج النتائج من ظواهر غير يقينية المدلول... ولم يحدث أن زالت السماء عن مواقعها، أو انحرفت الأرض عن مدارها، فهل هناك من هؤلاء الذين لم يكن لهم وجودٌ ممتد في عمق الزمن، بل كانوا حدثاً طارئاً لا يملك أيّ عمقٍ وامتدادٍ، من يزعم لنفسه، أو يزعم له غيره أنه كان شريكاً في إمساكها؟ {وَلَئِن زَالَتَآ} على سبيل الفرضية العلمية عندما يتخيّل العلماء إمكانات الحركة في الكون {إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} ممن يملك قدرة ذلك... إن الآية لا تتساءل وإن كانت تختزن السؤال، ولكنها تنفي على نحو الجزم، لأن النفي هو الحقيقة اليقينية، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} فلا يقابل عباده بالعقاب السريع، بل يتركهم ليفكروا ويتراجعوا ليتوبوا ويستغفروا ربّهم، ليغفر لهم كل ما أخطأوا فيه.

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} فلم يتركوا يميناً إلا والتزموه على أنفسهم، {لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} يرشدهم ويدلهم على الطريق المستقيم، ويخوِّفهم المصير الذي يقبلون عليه، تماماً كما كانت النذر التي جاءت للأمم السابقة، { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ} مبررين ضلالهم لفقدان المرشد والدليل والنذير... وهكذا كانوا يتحدثون مع الناس الذين ينكرون عليهم بعض انحرافهم وكفرهم، وكانوا يظنون في أنفسهم أن هذا الكلام لن يلزمهم بشيء لأنه لن يتحوّل إلى واقعٍ عمليٍّ، باعتبار أن زمن النذر ـ كما يتصورون ـ قد ولَّى، ولهذا فإنهم كانوا يتفادون بكلامهم الإحراج الذي يقعون فيه أمام تلك الكلمات، ولكن ظنهم قد أخطأ، فهذا هو الرسول محمد(ص) الذي أرسله الله إليهم أوّلاً، وللناس ثانياً، ليكون بشيراً ونذيراً، {فَلَمَّا جَآءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} فقد تعقّدوا منه بشكلٍ عنيف، لأنه استطاع أن يفضح دَجَلَهم ونفاقهم ويظهر حقيقتهم العارية، بعيداً عن كل التهويلات والكلمات الخادعة التي يبرّرون بها واقعهم للآخرين، ولكن، لِمَ يفعلون ذلك؟ إن الآية تجيب عن ذلك.

* * *

عقدة الاستكبار وراء الموقف

{اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ} فهم، بسبب عقدة الكبرياء المتأصلة في نفوسهم، يريدون المحافظة على امتيازاتهم الطبقية التي يستغلون بها المستضعفين، فيظلمونهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم الإنسانية العامة، كما أنهم يواجهون الأفكار التغييرية التي ترجعهم إلى حجمهم الطبيعي الإنساني، حيث يتحوّلون إلى مجرد أشخاصٍ عاديين يتميزون، إذا أرادوا التميّز، بأعمالهم وخدماتهم للآخرين، ولهذا كان هؤلاء المستكبرون هُمُ القوّة المضادّة الغاشمة التي تقف ضد الرسالات والرسل والمصلحين الذين يريدون للمستضعفين أن يتمرّدوا على ضعفهم، وللمستكبرين أن يبتعدوا عن استكبارهم، فيجحدون الحق، وهم يعرفونه، ويحاربون الرسول، وهم يعلمون أنه الصادق في رسالته، الأمين على حياة الناس.

{وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} في ما كانوا يخططون من مكائد ومؤامراتٍ وحيلٍ، من أجل أن يحرّكوا فكر السوء ومشروعه ونهجه في الواقع، ليحاربوا به فكر الخير ومشروعه ونهجه، ولكن المكر السيّىء الذي يريد هؤلاء أن يثيروا مشاريعه بين الناس، قد يمتد إلى حياتهم فينقلب عليهم دون أن يكونوا قد أعدوا عدَّةً للتخلص منه، لأنهم كانوا مستغرقين في توجيهه للآخرين، الذين قد يكونون مستعدين للتخلص منه بسبب استنفارهم لمواجهة التحديات.. ولهذا أطلق القرآن الآية في أسلوب المثل {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} وربما كانت المسألة تتعدى جانب النتائج السيّئة للمكر السيّئء، من نتائج الدنيا إلى نتائج الآخرة، حيث يتحول ما فعلوه وما خططوا له من الإضرار بالآخرين إلى عذاب شديدٍ يحلّ بهم، كما حل بهم بلاؤه في الدنيا.

{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ} التي تدل عليها كتب التاريخ، أو تكشفها آثار الأمم الماضية التي عملت السيّئات وتآمرت على الرسل والرسالات، وتمردت على خط الله، وخططت للإضرار بعباده، كيف ذهبت وتحطّمت كل حياتها وحلّ بها العذاب؟ هل يدرسون الفكرة من خلال التجربة السابقة ليتعرفوا أن تلك النتائج السلبية لم تنطلق من خصوصيةٍ معيّنةٍ لواقع هؤلاء، بل انطلقت من الخط العام الذي يجمعهم مع الآخرين في عناصر زوال الأمم التي تتحرك في سبيل الدمار والمكر السيئء في كل ألوانه وأوضاعه.. وتلك هي سنّة الله في الكون في ما جعله من نظام السببية التي ترتبط فيها المسبّبات بأسبابها، بعيداً عن خصوصيات الزمان والمكان والشخص، ما يجعلها ممتدةً في كل مواقع الحياة، فلا تتخلف النتائج عن المقدّمات، انطلاقاً من إرادة الله التي لا تتغير ولا تتبدل.

{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} لأن معنى التبدل أو التحوّل، أن تهتز الثوابت التي جعلها الله بمثابة القاعدة التكوينية للنظام الكوني القائم على سننٍ وقوانين، ما يسيء إلى إرادة الله، فالسنّة تعني الثبات، ولو كان الأمر متحولاً أو متبدلاً لما كان هناك سنّةً في معناها الكوني.. وهذا ما يريدنا الله أن نفرّق فيه بين الإرادة المتعلقة بالحالات الطارئة للأشياء، وبين الإرادة المتعلقة بالقوانين الثابتة في الكون، لنواجه المسألة في نهاية الأمور ضمن هذا الاتجاه.

* * *

دراسة نتائج المستقبل بدراسة نتائج الماضي

{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ممن دمرهم الله من دون أن يتمكنوا من التخلص من هذه العاقبة، {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} فلم تنفعهم القوّة التي قد تنفع مخلوقاً قوياً في مواجهة مخلوقٍ قوّيِّ مثله، فتختلف موازين النتائج تبعاً لاختلاف موازين القوّة، ولكن ماذا تنفع القوّة أمام خالق القوّة الذي يملك القوى بكل عناصر قوّته، ليذهب بها في لحظةٍ واحدةٍ، فتتبخّر في الهواء، فكيف يفكر هؤلاء الذين يقومون باستعراض قوّتهم أمامك أو أمام أنفسهم، ليشعروا بأنهم قادرون على التمرد على الله، وأن أمرهم سوف يعجزه، فلا يستطيع القضاء عليهم، ولا ردّ ما يريدون، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} لأنه المالك لكل ما في الوجود، والمسيطر عليه، فكيف يعجزه شيءٌ منه مما لا استقلال له بذلك، ولا قدرة له في وجوده، بل هو خاضعٌ لله في حركته، ومشدودٌ إليه بوجوده، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} يعلم كل شيء ويقدر عليه. ولكن، كيف يكفر الناس ويستمرون في طغيانهم وكفرهم، وكيف يعصون الله، ويبقون أقوياء في مواجهتهم له في ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه؟ وكيف نفسّر القدرة المطلقة لله التي لا يعجزها شيء وقدرة هؤلاء المضادّة الممتدّة في الحياة؟

لقد جعل الله للحياة نظاماً ثابتاً تخضع له كل الظواهر الكونية والإنسانية في حركتها، فلم يجعل العقاب مرتبطاً بالعمل ارتباط المعلول بالعلة، من دون أيّ فاصلٍ زمنيٍّ بينهما، بل جعل له موعداً نهائياً في اليوم الآخر، لتتحرك تجربة الانحراف إلى جانب تجربة الاستقامة، وليدور الصراع بينهما، فيغلب هذا تارةً وتغلب تلك أخرى، لتتحرك القناعة من خلال الفكر المتحرك بين التجربتين، وينطلق الموقف من خلال الإرادة المنطلقة مع الموقفين، لأن لله حكمته في أن تعيش الحياة غنى التجربة الإنسانية في الصراع بشكل عميق ومتحرك.

* * *

تأجيل الله عقاب المسيئين

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} من الفكر السيىء على المستوى العقيدي، أو من الكلام المسيء إلى البلاد والعباد أو من سيئات العمل، بما يمارسون من فساد على المستوى الفردي والجماعي في كل المجالات الإنسانية المتنوعة في الواقع، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} من كل ما يدب على الأرض من أنواع الإنسان من ذكر أو أنثى، لأنهم يستحقون ذلك بسبب خطورة المعصية التي ارتكبوها، وهي التمرّد على الله خالق السماوات والأرض.

ولكن مسألة العقوبة لدى الله، ليست حاجةً للتشفي والانتقام الذاتي، كما هو الحال لدى البشر، لأن الله فوق الحاجة الذاتية، لغناه في نفسه عن كل شيء، ويستحيل نسبة ذلك إليه، بل هي مظهرٌ من مظاهر حكمته، في ما يتوعد به عباده، ليلتزموا بالخط المستقيم في الدنيا ثم يحقق وعيده في بعض الناس الذين لا تنالهم رحمته، ويرفعه عن البعض الذين تنالهم.

{وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو يوم القيامة، في الخط العام للعقاب على الانحراف العقيدي والعملي، الذي قد يلتقي في بعض الحالات ببعض الاستثناءات عندما يعذب الله بعض الناس في الدنيا، بما ينزله عليهم من ألوان العذاب، كما حدث للأمم السالفة، {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وهو الموت أو يوم القيامة، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} يعرف كلاًّ منهم من خلال عمله فيجازيه عليه، فهو الله الخالق المدبّر الحكيم العالم بعباده، وكيف لا يعلم مَنْ خلق وهو اللطيف الخبير؟