المقدمة + من الآية 1 الى الآية 12
سورة يس
مكية ـ وهي ثلاث وثمانون آية
في آفاق السورة
في هذه السورة المكية، حديثٌ متحركٌ يلامس الفكر والحسّ وحركة الإنسان في الحياة، ويتمحور حول موضوع التوحيد الإلهي في دائرة الحركة النبويّة التي تواجه محيطها المشرك الكافر الذي يعيش الجهل والتخلف والغفلة في المسألة العقيدية، فيتمرد وينحرف ويسيء ويواجه الرسالة بالتعسف والجحود والطغيان. وتطوف السورة ضمن هذه الدائرة في آفاقٍ رحبةٍ من الظواهر الكونية التي تدلّ على دقة النظام الكوني الذي يوحي بعظمة خالقه، وتطل على الواقع المنحرف في حياة الناس الذين وقفوا ضد الرسالة والرسول لتخاطبهم من خلال نداء الله، بخطابٍ فيه الكثير من العتاب اللاذع، والإيحاء العميق بالترابط بين واقعهم وبين النتائج التي تنتظرهم في الآخرة. وتنتقل إلى الحديث عن الرسول وعن تهمة الشعر التي ألصقها المشركون بعنوان رسالته لإبعادها عن جو القداسة، وتنتهي السورة بحديث عقلاني عن اليوم الآخر وعن بعض المظاهر التي تتحرك في هذه الدائرة من الثواب والعقاب.
ـــــــــــــــــ
الآيــات
{يس*وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ*إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ*عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* تنـزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ* لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ* إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ* وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ* وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ* إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (1ـ12).
* * *
معاني المفردات
{مُّقْمَحُونَ} المقمح: الذي يغض بصره بعد أن يرفع رأسه.
{فَأغْشَيْنَاهُمْ}: جعلنا على أبصارهم غشاوة.
{أَغْلالاً}: الأغلال: جمع غلّ، وهي القيود التي تشد بها الأيدي إلى الأعناق.
* * *
القرآن دليل رسالة محمد(ص)
{يس} من الحروف المقطّعة التي سبق الحديث عنها في أول سورة البقرة، وجاء في مجمع البيان وجود خلاف خاص حول هذه الكلمة بالذات فقيل: «يس، معناه يا إنسان، عن ابن عباس وأكثر المفسرين، وقيل معناه: يا رجل، عن الحسن وأبي العالية، وقيل معناه: يا محمد، عن سعيد بن جبير ومحمد بن الحنفية، وقيل: معناه: يا سيد الأولين والآخرين، وقيل: هو اسم النبي(ص) عن علي بن أبي طالب وأبي جعفر(ع)»[1].
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} الواو للقسم، فقد أراد الله أن يقسم بالقرآن الحكيم الذي كان المشركون ينكرونه ورسالة النبي(ص)، للإيحاء بأنه يمثل الحقيقة الثابتة التي تستمد الحقائق الأخرى دلائلها منها، فإذا كانوا يطلبون الدليل على رسالة النبي(ص)، فإن القرآن يؤكد ذلك. أمَّا وصفه بالحكمة، فلما يشتمل عليه من الفكر والمنهج والأسلوب الذي يخطط للإنسان سلوك الحكمة في الكلمة والحركة والعلاقة الإنسانية، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين أرسلهم الله إلى الناس ليبلّغوهم رسالته، بما تتضمنه من أوامره ونواهيه، التي يريد الله لهم أن يفعلوها أو يتركوها، {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خاضعٍ للخطة الفكرية والتشريعية المنفتحة على الإنسان والحياة لإصلاح أمرهما، وإبعادهما عن الفساد، لتكون البداية من الله، حيث يتركز الإيمان من قاعدة الانطلاق، ولتكون النهاية عنده، لتلتقي به كل الأهداف الكبيرة التي يريد للإنسان أن يحققها ويبلغها بفضل جهده العملي في الحياة، فلا تنحرف حركة السير عن الاتجاه الذي تلتقي فيه نقطة البداية بنقطة النهاية.
وهكذا كان النبي(ص) القدوة المثلى في الاستقامة على الخط الذي دعا إليه، فلم ينحرف عنه بكلمة، ولم يبتعد عنه بحركة، بل كانت حياته كلها إسلاماً يتجسد، وقرآناً يتحرك ويشاهد {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} الذي يحفظ بعزته كتابه من إعراض المعرضين وجحود الجاحدين وتحريف المحرِّفين، فلا يستطيع كل هؤلاء أن يُسقطوه، أو يضيّعوه، أو يمنعوه عن الحركة الدائمة في امتداد الزمان والمكان، وفي كل مواقع الإنسان، وذلك من مواقع رحمته التي كانت أساساً لإرسال الرسول، وإنزال القرآن عليه، ليرحم الناس بالرسول وبالقرآن الذي يهديهم إلى سواء الطريق.
{لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} وهم قريش الذين كانوا يعيشون مع العرب المحيطين بهم في فراغٍ من الرسل، فقد ابتعد عنهم عهد الرسالات، وتحجَّرت العقلية الجاهلية الحاملة للشرك والوثنية في داخل شخصياتهم، ما جعلهم يعيشون البعد النفسي عن جوّ الرسالة في مفاهيمها الروحية، وفي خطها التوحيدي، الأمر الذي يفرض على الرسول الكثير من الجهد والمعاناة في سبيل إيجادٍ ثغرةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ في هذا الجدار الصلب المتحجر القائم في داخل نفوسهم، الذي يمنعهم من قبول أيّة دعوةٍ مخالفةٍ لما يلتزمونه من خط الآباء والأجداد، {فَهُمْ غَافِلُونَ} لأنهم ابتعدوا عن كل آفاق اليقظة في رحاب الرسالات، الأمر الذي أفقدهم رؤية الاحتمال المضاد، ليناقشوه في أنفسهم بما يهز قناعاتهم، من خلال الشك الذي يوحي به الاحتمال، وتتحرك به المناقشة، فتتحرك الرسالة في هذا الجو، لتستفيد من ذلك كله في تحرك عملية التغيير الداخلي في الفكر والشعور.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} من هؤلاء الذين رفضوا الإيمان رفضاً قاطعاً، بحيث لا مجال لأيّة تجربةٍ أخرى في إدارة الحوار معهم حول الموضوع، وذلك من موقع التمرد المعقّد، لا من موقع القناعة الفكرية، ولذلك وجب القول عليهم، وهو العقاب الذي ينتظرهم عند الله {فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} فلا إمكان للمغفرة والرحمة لهم في هذا الموقع. وربما كان المراد بالقول: فهم لا يؤمنون وفق ما سبق من علم الله، في ما يعلمه من أسباب الأشياء من الأمور الاختيارية والتكوينية، أي لقد سبق القول على أكثرهم أنهم لا يؤمنون، فحق عليهم قوله، والله العالم.
* * *
جعلنا في أعناقهم أغلالاً
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم، فبقيت رؤوسهم مرفوعةً إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها ويميزوها عن غيرها.
وقد اختلف في تفسير الفكرة التي تتضمنها الآية، في عدة وجوه، ذكرها صاحب مجمع البيان:
«أحدها: أنه سبحانه إنما ذكره ضرباً للمثل، وتقديره: مثل هؤلاء المشركين في إعراضهم عمّا تدعوهم إليه كمثل رجل غُلّت يداه إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطهما إلى خير، ورجل طامح برأسه لا يبصر موطىء قدميه، عن الحسن والجبائي، قال: ونظيره قول الأفوه الأزدي:
كيف الرشاد وقد صرنا إلى أُمَمٍ لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغلالٌ وأقْيَادُ
ونحوه كثير في كلام العرب.
وثانيها: أن المعنى: كأن هذا القرآن أغلال في أعناقهم يمنعهم عن الخضوع لاستماعه وتدبّره لثقله عليهم، وذلك أنهم لمَّا استكبروا عنه وأنفوا من اتباعه، وكان المستكبر رافعاً رأسه لاوياً عنقه شامخاً بأنفه لا ينظر إلى الأرض، صاروا كأنما غلَّت أيديهم إلى أعناقهم. وإنما أضاف ذلك إلى نفسه لأن عند تلاوته القرآن عليهم ودعوته إيّاهم صاروا بهذه الصفة، فهو مثل قوله: حتى أنسوكم ذكري، عن أبي مسلم.
وثالثها: أن المعنيَّ بذلك ناسٌ من قريش همّوا بقتل النبي(ص)، فجعلت أيديهم إلى أعناقهم، فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يداً، عن ابن عباس والسدي.
ورابعها: أن المراد به وصف حالهم يوم القيامة، فهو مثل قوله: إذ الأغلال في أعناقهم، وإنما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق»[2].
ولعل الوجه الأخير أقرب لانسجامه مع الآية السابقة بحسب ظاهر معناها في إرادة العذاب من كلمة القول ولعدم وجود شاهد لفظيّ أو سياقيّ على الوجوه المذكورة، والله العالم.
* * *
الله أغلق عليهم نوافذ المعرفة
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} لما تفرضه الحواجز النفسية التي نصبتها عقلية الجهل والتخلف التي أغلقت عنهم نوافذ المعرفة الحقة، ولم يحاولوا أن يدخلوا في حوار انطلاقاً من مواقع الفكر التي تثير الفكر الآخر، وبذلك كانت الدائرة الفكرية التي يعيشون فيها مملوءةً بالسدود التي تحيط بهم من كل جهة، فابتعدوا عن التطلع إلى الأفق الرحب الذي يعيش إشراقة الهدى والإيمان.
{فَأغْشَيْنَاهُمْ} في ما أثارته السدود من غطاءٍ على عيون قلوبهم {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} لأن البصر لا يستطيع أن يتعرف الطريق إلا في المدى الواسع الذي يسمح بالامتداد، ولا يستطيع أن يكشف الطريق المملوءة بالحواجز المنتصبة في الفضاء.
{وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} لأنهم فقدوا إرادة الإيمان التي تدفعهم إلى البحث والتفكير، ولذلك فإنهم يرفضون الانفتاح على كل حديث في هذا الموضوع، ولا يسمحون لأحد أن يناقشهم حوله، ما يجعل الكلام عبثاً لا طائل تحته.
* * *
بين الخشية والحساب
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} هؤلاء الذين انفتحت قلوبهم على الوحي فأصغوا إليه بمسامع قلوبهم، وأدركوا الحقيقة الكامنة في معناه، وعاشوا مع الله في وجدانهم الفطري، ومشاعرهم الروحية، فاكتشفوا حقيقة وجوده ووحدانيته التي يدل عليها كل ما في داخلهم وما في الكون من آيات، فخافوا منه، وإن لم يشاهدوه بفعل ستار الغيب الذي يحجبه، ولكنهم يعيشون الهدى الذي يدركون ملامح وجوده بالحس، وإن لم يستطيعوا الوصول إلى الإحساس به بشكل مباشرٍ، وهم بفضل هذه الروح العميقة الكامنة في شخصياتهم، استطاعوا أن يصلوا إلى الإيمان بالذكر وخشية الرحمن بالغيب من خلال الإنذار؛ ويمكن الوصول من خلال ذلك إلى الدخول في كل التفاصيل الأخرى التي تمثل المفردات الفرعية للإيمان. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لأنه يستحق البشرى بالمغفرة الإلهية على ما أخطأ فيه، والأجر الكريم على ما عمله، وذلك لاستقامته على الخط الإيماني الذي يتحرك فيه.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْييِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} من أعمال الخير والشرّ {وآثارَهُمْ} من النتائج السلبية أو الإيجابية، مما يبقى من أعمالهم بعد الموت، كبناء مشروعٍ عباديٍّ أو تربويٍّ أو خيريٍّ، أو تأليف كتاب ينتفع به الناس من بعده، أو بناء دارٍ للهو والفجور والكفر، أو تأليف كتاب يضل به الناس، إن الله يثبّت ذلك في صحائف أعمالهم ليواجهوها غداً عندما يقفون للحساب في يوم القيامة، {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} وهو الكتاب الذي أحصى به كل الأشياء من موجودات ومعلومات مما يتصل بكل مخلوقاته، وهو اللوح المحفوظ، على رأي بعض المفسرين، استناداً إلى أنه تعالى يثبت كلامه في كتاب يحصي كل شيءٍ، ثم لكل أمة كتاب يحصي أعمالها، ثم لكل إنسان كتاباً يحصي أعماله كما قال تعالى: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59]، وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء:13]، وظاهر الآية يقضي بنوعٍ من البينونة بين كتاب الأعمال والإمام المبين، حيث الفرق بينهما بالعموم والخصوص وباختلاف التعبير بالكتابة والإحصاء.
ولكن هناك رأياً آخر يفيد أن المراد بالإمام المبين هو صحف الأعمال، ولعل الأساس فيه هو مناسبته لصدر الآية ليكون بمثابة الكبرى للصغرى، بحيث يكون المعنى، إننا نكتب ما قدموا وآثارهم في ما نحصيه من كتاب أعمالهم، للتأكيد على وجود كتاب يتضمن ذلك كله.
وقد لا يكون من الضروري أن يكون هنا أنواع من الكتب، للإنسان الذات، وللأمة، وللموجودات كلها، بل هو نوعٌ من ترتيب الأمور في مواقعها في ما يراد الإشارة إليه من إحاطة علم الله بكل ذلك، فقد لا نتصور معنىً لوجود كتابٍ للأفراد، إلى جانب كتابٍ آخر للأمة، لأن ذلك يمثل تكرير كتاب الأفراد في نسخةٍ ثانية، لأن الأمة هي الأفراد مجتمعين، أمَّا اختلاف التعبير بالكتابة والإحصاء، فليس بشيءٍ لأنه لون من تنويع الأسلوب، والله العالم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:4، ص:650.
(2) مجمع البيان، ج:4، ص:651.
تفسير القرآن