تفسير القرآن
يس / من الآية 13 إلى الآية 19

 من الآية 13 الى الآية 19
 

الآيــات

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ* قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ* قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ* قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (13ـ19).

* * *

معاني المفردات

{فَعَزَّزْنَا}: أمددنا، قوّينا.

{تَطَيَّرْنَا}: تشاءمنا.

{طَائِرُكُم}: شؤمكم.

* * *

أصحاب القرية في مواجهة المرسلين

وهكذا ينقلنا القرآن إلى التاريخ، حيث واجه المرسلون الدعاة إلى الله المواقف الصعبة التي تتحداهم فيها قوى الكفر بكل أساليب التمرد والجحود، فلا تستمع إليهم، ولا توافق على الدخول في حوار معهم، ولكنهم لا يتراجعون، بل يستمرون في الدعوة وإعلان الموقف، لأن كلمة الرسالة لا بد من أن تُقال وتتحرك مع الآذان الصمّاء والمواقف الرافضة، لتفرض نفسها على الجوّ، أو لتنفذ من خلال ثغرةٍ طارئةٍ من هنا، ونافذةٍ مفتوحةٍ على القلب من هناك، لتبدأ الطريق من الموقع الصغير، فالتراجع في البداية أمام تحديات الآخرين، يفرض أن لا تبدأ الرسالة، باعتبار أن القوى المضادّة تقف أمام البدايات لتهزمها حتى لا تفرض نفسها على الساحة بعد ذلك.

وهكذا يريد القرآن أن يحدثنا عن تاريخ الحركة الرسالية، من دون دخولٍ في التفاصيل، لنستلهم من ذلك صلابة الموقف أمام التحدي، وطبيعة الذهنية الكافرة المتحجرة التي لا تنفتح للحق ولا للحوار.

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} الذين أغفل الله ذكر ملامحهم الشخصية في أسمائهم وصفاتهم، كما أغفل ذكر اسم القرية وموقعها، لأن القصة ليست لتفصيل التاريخ، بل لأخذ العبرة. وتحدث المفسرون عن أن هؤلاء المرسلين من حواريي عيسى(ع)، ولكنهم ذكروا تفاصيل القصة بما لا يتفق مع أجواء هذه الآيات مما لا جدوى في تحقيقه والجدل فيه.

{إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} وقيل: إنهم ضربوهما وعذبوهما وكادوا يقتلونهما، {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} وقيل: إنه شمعون وصي عيسى الذي أرسله ليخلِّصهما، {فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} لندعوكم إلى توحيد الله وعبادته والسير على نهجه القويم وصراطه المستقيم، ولكن القوم من أهل القرية كانوا خاضعين لفكرةٍ خاطئةٍ في تصوّر شخصية الرسول الذي ينبغي أن يكون ملاكاً بنظرهم ولا يمتّ إلى البشر بصلة، وعلى ضوء ذلك، فلا يمكن أن يكون هؤلاء رسلاً لأنهم بشر كبقية البشر؛ فـ {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ} مما تدّعونه من الوحي الذي تحملونه وتريدون أن تبلِّغونا إياه، {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} لتحصلوا على مكانةٍ اجتماعيةٍ مميّزةٍ بيننا من خلال القداسة التي تصفون بها موقعكم.

{قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فليست القضية موضع تردّدٍ لدينا، بل هي الحقيقة الواضحة، ولذلك فلن يجعلنا هذا الأسلوب الرافض للرسالة في موقع التراجع، لأننا نملك شهادة الله التي هي فوق كل شهادةٍ، فهو الذي أرسلنا، وهو الذي يعلم صفتنا الرسالية، فلا قيمة لتكذيب أيّ مكذبٍ أو تشكيك أيّ مشكّكٍ، وستظهر الحقيقة في نهاية المطاف، وسنتابع السير على هذا الأساس، {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فتلك هي مهمّتنا التي نقوم بها في ساحتكم، لتقوم الحجة عليكم من الله الذي سوف يحاسبكم على كل ما تقومون به من جحود وكفران.

{قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاءمنا بوجودكم بيننا، لأنكم تمثلون الاتجاه الذي يريد أن يثير المشاكل في داخلنا، فيفرِّق بيننا، ويفصلنا عن مقدساتنا، ويبعدنا عن الجوّ الهادىء المستقر الذي يخيّم علينا، ما يجعل وجودكم شؤماً كلّه، ولذلك فإننا نطلب منكم أن تغيّروا طريقتكم، وأن تكفّوا عن كل هذا الحديث، ودعونا نتابع السير وفق عاداتنا وتقاليدنا بكل راحةٍ واطمئنانٍ، و{لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} عن ذلك {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارة حتى ندميكم أو نقتلكم، {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} بأساليب ووسائل أخرى مما يسبّب لكم الآلام الشديدة، ويعرّفكم نتائج مواجهتكم لمقدّسات الآخرين.

وذلك هو نهج الطغاة الذين لا يستطيعون الرد الفكري على طروحات الإيمان والصلاح، فيعمدون إلى إثارة الأجواء الانفعالية الإرهابية المضادّة التي تشوّه صورة المؤمنين والمصلحين من جهةٍ، وتهدّد وجودهم وسلامتهم من جهة أخرى، لتضغط عليهم نفسيّاً وجسديّاً حتى يتراجعوا عن دعوتهم الإيمانية وخطتهم الإصلاحية.

ويبقى للمؤمنين والمصلحين، الذين يتحملون مسؤولية الدعوة إلى الله في دائرة الإيمان والصلاح، أن يثبتوا ويتماسكوا ويواجهوا الكلمة بكلمةٍ أقوى منها، والموقف بموقفٍ أشد منه، والقوّة بعزمٍ أكثر صلابةً، وأشدّ حسماً. وهكذا وقف هؤلاء الرسل الدعاة الثلاثة، فلم ينهزموا ولم يسقطوا أمام التهويل الكلامي والعملي الذي حاول الكافرون إثارته في وجوههم، بل {قَالُواْ طَائِرُكُم} الذي تعتبرونه رمزاً للتشاؤم، وقد كان يغلب عليهم التشاؤم بالطير فغلب الاسم على الفكرة {مَّعَكُمْ} فإن الشؤم الذي تتحسبون له وتخافون منه وتعملون على طرده من ساحتكم، هو في عمق هذه الساحة، وسببه ما تحمله أفكاركم من الكفر والشرك، وما تعيشه مشاعركم من الحقد والبغضاء، وما تتحرك به أوضاعكم من الانحراف والكذب والرياء، فهذه الصفات هي التي تربك حياتكم وتمنعها من الهدوء والصفاء وتبعدها عن خط الاستقامة والرحمة والمحبة والوداعة والسلام، وتجعلكم في غفلةٍ عن الحقيقة الإلهية التي تفتح الحقيقة الإنسانية على الأفق الرحب الذي يشرق فيه الخير والحق والعدل والأمان.

{أَئن ذُكِّرْتُم} بالحق المتمثل بوجود الله وتوحيده ومنهجه السليم في الحياة، أعرضتم عنه وبقيتم تترددون في أجواء الغفلة المطبقة المستولية على عقولكم ومشاعركم ومواقفكم في الحياة، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} لا تعيشون في خط التوازن الذي يحسب حساب الأشياء بدقّة، ويحاكمها بعمق، ويتحرك في اتجاهها باستقامة، بل تتجاوزون ـ بفعل شرككم وضلالكم ـ الحدود المعقولة التي وضعها الله أمام الإنسان لتكون حاجزاً بينه وبين الهلاك الروحي والعملي، فتمتدون في معصية الله والتمرّد عليه من دون رجوعٍ إلى العقل والوجدان.

* * *

روح القوّة في شخصية الرسل

ونلاحظ من خلال هذا السجال، روح القوّة في شخصية هؤلاء الرسل الذين لم يشعروا بالضعف عندما شعروا بقلة عددهم أمام الجماهير الكبيرة التي يمثلها هؤلاء الطغاة المترفون من وجهاء الناس وقادتهم، فقوتهم مستمدة من إيمانهم وعلاقتهم بربهم وشعورهم بأن هؤلاء لا يتحركون فعلياً من مواقع قوّة، بل من مواقع ضعفٍ، وسبب ضعفهم يعود إلى تخوفهم من أن تقتنع الجماهير الطيبة البسيطة بالحقيقة من أقرب طريق، بعيداً عن كل عوامل التعقيد والتكلف، ولهذا فإنهم لا يريدون للدعاة أن يذكّروا لأنهم يخافون على الناس أن يتذكروا، بل ربما تصل المسألة إلى المستوى الأخطر عندما يشعرون باهتزاز قناعاتهم في داخل أنفسهم من خلال ما يسمعونه من كلمات الحق، ولهذا فإنهم يريدون تفادي سقوطهم أمام أنفسهم التي قد تستجيب للرسل من حيث لا يشعرون.

وهذا ما ينبغي للدعاة أن يستوحوه من هذه القصة ـ الموقف، ليدرسوا في كل ساحات الصراع التي تخوضها حركة الدعوة، نقاط الضعف البارزة والخفية لدى القوى المضادة كما يدرسون نقاط القوّة الكامنة في داخل أنفسهم، وفي مواقعهم الفكرية والعملية، ليتوازن عندهم الموقف، ما يسهِّل اندفاعهم بقوّة في خط المواجهة بالكلمة القوية والأسلوب الحاسم، والفكرة الفاعلة الثابتة، وليس غير هذا السبيل يوصل إلى عملية صنع القوة.