من الآية 20 الى الآية 32
الآيــات
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ* وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِي عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ* إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* إِنّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ* وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ* إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ* يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ* وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (20ـ32).
* * *
معاني المفردات
{أَقْصَى}: أبعد.
{الْقُرُونِ}: جمع قرن، وهم القوم المقترنون في زمن واحد.
* * *
الرجل ـ النموذج
وهذا رجل ـ نموذج، يمثل الإنسان الذي يخرج من قلب مجتمعه، ليدخل في مواجهة معه، انطلاقاً من موقف الحق أمام الباطل الذي يتبناه المجتمع كله، ومن موقف المساندة للمجموعة الرسالية الصغيرة الداعية إلى الله، في مقابل الجماهير الغفيرة المشركة به أو المنكرة له.
ومن خلال دراستنا لشخصيته، ولروح القوّة التي تعيش في داخل عقله وشعوره، ولإشراقة الإيمان التي تشرق في روحه منيرةً كل المواقع، نستطيع أن نخلُص إلى الفكرة التي لا تعتبر فساد البيئة التي يعيش فيها الفرد أساساً حتميّاً لفساده الذاتي، بحيث تمثل الضغط الذي لا يستطيع أن يواجهه أو يثبت معه، بل يمكن له أن يتمرد على واقع البيئة الفكري والعملي، عندما يملك عقله ووجدانه، ويحمي شعوره من الاهتزاز العاطفي والانفعالي بما حوله، أو بمن حوله، ويجلس مع نفسه جلسةً هادئةً، في أجواء الهدوء والحياد الفكري. ليكتشف في المسألة الفكرية شيئاً غير ما يفكر به الآخرون، ويجد في المسألة العملية خطاً غير الخط الذي يتحرك بانسجام مع البيئة المنحرفة الضاغطة.
وعلى المستوى الواقعي، لا بد من الاعتراف بصعوبة الوقوف أمام ضغط البيئة في انحرافها الفكري والعملي، لكن تحدِّي هذا الضغط ليس شيئاً مستحيلاً، ما يجعل القضية خاضعةً للضغط المضادّ الذي يستنفر فيه الإنسان طاقاته الروحية والفكرية والعملية، ما يسمح بالمواجهة بطريقةٍ متوازنةٍ حاسمةٍ، لا سيما حين يتم إبراز النماذج الواقعية المتحركة في أكثر من موقعٍ من مواقع ساحات الصراع، كما في مثل هذا الرجل النموذج، الذي برز فجأةً من بين القوم ليرفع صوته بنداءٍ قويٍّ حاسمٍ.
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} ويسرع في المشي ليعلن موقفه الذي كان يخفيه عن قومه، أو كان لا يجد ضرورةً لإعلانه، انتظاراً لما قد يحدث من إيمان قومه بهؤلاء الرسل، ولكنه الآن يجد المسألة قد بلغت حدّاً كبيراً من الخطورة، فلم يرتفع من بينهم أيُّ صوتٍ مؤمنٍ ما يدلّ على سيطرة الكفر على الموقف كله، بحيث لو كان هناك مؤمنٌ في الخفاء، فإنه قد يخاف أمام هذه السيطرة أن يعلن موقفه، ولذا رأى من واجبه أن يقول كلمة الإيمان مقابل كلمات الكفر، ليؤكد للإيمان موقفه، وليفسح المجال للمترددين أن يحسموا أمرهم إلى جانب الرسل، وليخرق الإجماع الكافر ولو بصوتٍ واحدٍ.
{قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} الذين يدعونكم إلى توحيد الله وعبادته والسير على خط هداه، {اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْألُكُمْ أَجْراً} فقد قدّموا إليكم النصح والهداية، وعملوا بكل جهدهم في سبيل الله، لترجعوا إليه، من دون أن يطلبوا منكم أيّ أجر في مقابل ذلك، فهم ليسوا من المرتزقة الذين يتوصلون إلى تحصيل المال من خلال الشعارات الجذّابة التي يرفعونها، أو تحصيل الجاه من خلال المواقع التي يضعون أنفسهم فيها، بل هم من الرساليين الذين عاشوا الهداية فكراً وروحاً وعملاً، {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} فأرادوا أن يبلغوها للناس، ليهتدوا بها، كما اهتدوا هم بها، لأنهم يحبون للناس ما يحبون لأنفسهم. ولذلك فلا بد لكم من دراسة العمق الرساليّ في شخصياتهم، والروح المخلصة في موقفهم، والبعد عن كل منفعةٍ في طروحاتهم، لتعرفوا أن دعوتهم دعوة حقٍ وخيرٍ وصلاح، وليست دعوة باطلٍ وشرٍّ وفسادٍ، لأن دعاة الحق هم الذين يغريهم الحق بالتضحية في سبيله من خلال ارتباطه بالله، أمّا دعاة الباطل، فإنهم لا يجدون أساساً للتضحية لأجله، بل همهم ما يكسبونه من مالٍ أو شهوةٍ أو جاهٍ.
وهكذا أعلن لقومه القاعدة التي ترتكز عليها دعوته لهم لاتّباع الرسل، ثم أراد أن ينقلهم إلى جوٍّ جديدٍ، ليحدثهم عن تجربته الإيمانية الذاتية، وعن خلفيتها الفكرية من جهة الإيمان بالله وإنكاره للشركاء المزعومين، والهدف أن يقطع عليهم طريق الدخول في جدلٍ معه حول الخصوصيات التي تحيط بمسألة اتِّباع الرسل، فتتخذ المسألة بعداً جدليّاً شخصياً، يبعد القضية عن المعنى الإيمانيّ في مضمونه الفكري، وكأنّه يريد أن يُعلن لقومه ما أعلنه الرسل من خصوصية الإيمان أو ما أراد الرسل أن يمتدوا في بيانه، فمنعهم القوم من ذلك.
{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فهو الذي خلقني من العدم، فكان وحده المستحق للعبادة، من موقع ألوهيته المطلقة في كل صفاته، فليس لغيره من القدرة إلا مما هو منحةٌ له، وعطيّةٌ منه، فهم المخلوقون له من الموقع الذي أنا مخلوق له، فما الذي يميزهم عني حتى أعبدهم من دونه، وإذا كان موقعي من الله هو موقع المملوك من المالك، والمألوه من الإله، فكيف لا أعبده، لأقوم بشكر نعمته عليَّ، ولأواجه مسؤوليتي أمامه عندما أرجع إليه، وإذا كان من اللازم عليّ أن أعبده لأني مخلوقٌ له فلا بد من أن أُواجه موقفي في خط العبودية، ولا بد لكم يا قوم من أن تعبدوه ـ على هذا الأساس ـ وتواجهوا الحقيقة النهائية عندما تقفون بين يديه، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيحاسبكم على أعمالكم في دائرة الإيمان والطاعة، أو في دائرة الكفر والمعصية. {أَأتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} ممّن تعبدون، أو مما تعبدون منها، وهي لا تملك أيّة ميزةٍ في ساحة القدرة، فلا تستطيع أن تدافع عن الذين يؤمنون أو يرتبطون بها، {إِن يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} مما ينـزله على عباده من بلائه، أو مما يوقعه بهم من عقابه {لاَّ تُغْنِي عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} في ما يعتقده الناس بهم من الدرجة الرفيعة عند الله من حيث إنهم الآلهة الوسطاء الشفعاء الذين يعبدهم الناس ليقربوهم إلى الله زلفى، ولكنها عقيدةٌ خاطئةٌ، فهؤلاء لا يمثلون شيئاً من الامتيازات الذاتية التي تميزهم عن الناس الآخرين، فلم يمنحهم الله شيئاً من القرب إليه من مواقع العنصر الذاتي، لأن الله لا يقرّب أحداً إلا بعمله، إذ الناس كلهم سواءٌ لديه في الخلق، فليس أحدٌ أقرب إليه من أحد، ولا قيمة لشفاعتهم إذا شفعوا، فهم يعرفون موقعهم إذا كانوا من ذوي العقل والحياة والشعور، وهم لا يملكون الإحساس إذا كانوا من المخلوقات الجامدة، لذا لا معنى للشفاعة منهم، فكيف تغني الشفاعة شيئاً لي أو لغيري من الناس، {وَلاَ يُنقِذُونَ} في مبادرة الإنقاذ الذاتي من موقع القوّة المستقلة القادرة على الإنقاذ، فيمن يريد الله أن يضرّه أو يعذبه، فكيف يكونون آلهة، وهم لا يملكون من صفاتها وقدرتها شيئاً؟
{إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وأيّ ضلالٍ أوضح من عبادة شيء لا يضر ولا ينفع، وترك عبادة من يملك الإنسان كله، ومن يملك الوجود كله؟
{إِنّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي تحسون بربوبيته بفطرتكم، وتنكرونه بألسنتكم، فقد استجبت لنداء الفطرة، وتحرّكت في خط الاستقامة، واستجبت لنداء الرسل، وها أنذا أعلن الحقيقة التي تفصلني عنكم وتميز موقفي عن موقفكم {فَاسْمَعُونِ} وقيل إن النداء هو للرسل، لا للقوم، لأنهم لا يؤمنون بأن الله هو ربهم، ويُردّ هذا الكلام بأنّ هذا التعبير جارٍ على ما هو الحقيقة التي قامت الحجة عليها، في ما تفرضه فطرتهم التي تمرّدوا عليها.
* * *
العمق الإنساني في شخصية الرجل المؤمن
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} عندما انتهت حياته، بشكل طبيعيّ، أو بالقتل، كما قيل. وهكذا ينقلنا الله فجأة من ساحة الحوار بينه وبين قومه، ومن التأكيد على ثبات الموقف وشجاعته مما قرّبه من الله، وحبَّبه إليه، ومنحه رضوانه، وأدخله جنته، إلى يوم القيامة عندما يدعوه الملائكة لدخول الجنة. وهنا تنفتح الروح الإيمانية على المعنى الإنساني الرحيم الذي يجعله بعيداً عن العقدة العدوانية التي تتشفّى وتنتقم، فنرى هذا الإنسان المؤمن الذي قد يكون عاش الاضطهاد من قومه، وقد يكون عاش الوحدة بينهم، وهو يتطلع إلى الجنة ونعيمها، يتمنى وهو في رحاب النعيم، أن يكون قومه معه، لو أنهم علموا هذا المصير الرائع الذي ينتهي إليه المؤمنون.
{قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ*بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} من السنوات التي مضت من عمري في خط الكفر والمعصية {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} عندما اطّلع على إخلاصي في إيماني، وصلابتي في موقفي.
وهكذا انتهى هذا الموقف الذي نستلهم منه العبرة في النتائج الإيجابية التي يحصل عليها المؤمنون، وفي الروح المنفتحة على الخير في حياة الناس كلهم من دون تعقيد، فنتعلم أن لا يعيش الإنسان الحاجز النفسي من موقع العقدة الذاتية الفئوية التي تفصله عن الآخرين، بل يبقى في أجواء التفكير التي توحي إليه بأن عليه أن يتمنى للآخرين الحصول على ما حصل عليه من المواقع التي انطلق منها، في ما يهديهم الله إليها، ويقرّبهم منها.
هذا حال الرجل المؤمن، فما حال قومه، وكيف انتهى أمرهم؟
* * *
يا حسرةً على العباد
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} لأنهم ليسوا في مستوى من القدرة التي تحتاج إلى جندٍ من الملائكة للقضاء عليهم، {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} تماماً كما تنطفىء الشعلة المتّقدة عندما تطفئها الرياح، فتخبو، كما لو لم تكن شيئاً... {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} إنه نداء الربّ الذي يشفق على عبيده ويريد أن يرحمهم في مواقع طاعته، ولكنهم لا يقبلون رحمته، فيتمردون عليه وعلى رسله من دون وعي ولا عقل، {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} فلا ينظرون إلى رسالته نطرةً جدِّيةً، بل ينظرون إليها بروح الاستخفاف والاستهزاء، لأنهم لا يدركون طبيعة المصير الذي يصيرون إليه، ولا يعتبرون بالأمم التي عاشت من قبلهم، فبادت وذهبت أدراج الرياح كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فهل فكّروا أين ذهبوا، وماذا حدث لهم، وهل انتهوا إلى موتٍ نهائيٍّ، أو أن لهم عودةً بعد ذلك للحساب؟ وتلك هي علامات الاستفهام التي أراد الأنبياء لهم أن يفكروا فيها، ليصلوا إلى نتيجةٍ حاسمةٍ في مسألة الإيمان بالله واليوم الآخر.
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وما كل هؤلاء إلا جميعٌ محضرون لدينا يوم القيامة لنحاسبهم على كل ما عملوه، فهذه هي الحقيقة التي كان من الضروري الانتباه إليها لو كانوا يسمعون أو يعقلون.
تفسير القرآن