تفسير القرآن
يس / من الآية 33 إلى الآية 44

 من الآية 33 الى الآية 44

الآيــات

{وآيَةٌ لَّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ* سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ* وَآيَةٌ لَّهُمُ الليْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ* لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ* وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ* وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ* إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}(33ـ44).

* * *

معاني المفردات

{نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}: أي نزيل النهار ونضع الليل مكانه.

{كَالعُرجُونِ}: الاعوجاج، وهو غصن النخلة، شبه به القمر إذا انتهى في نقصانه.

{فَلاَ صَرِيخَ}: فلا مغيث.

* * *

جولة قرآنية في آيات الله الكونية

وهذه جولةٌ قرآنية في آيات الله الكونية، حيث تظهر قدرة الله وعلمه ورحمته، الأمر الذي يدعو الناس إلى التفكير والبحث والاستقراء في تفاصيل الظواهر الكونيّة في الأرض والسماء، للحصول على المعرفة الواعية التي تعمق نظرة الإنسان إليها، ليكتشف القوانين الإلهية الطبيعية التي أودعها الله في نظامها، ليزداد خبرةً في مجال الاستفادة منها، لأن الله سخرها له، ثم ليكتشف فيها عظمة الله وقدرته، من خلال دقة الخلق وعمقه، فيزداد إيماناً بالله، وخضوعاً له.

{وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ} التي لا أثر فيها للخضرة ولا للحيويّة، بل هي مجرد ترابٍ جافٍّ يهتز مع الريح تارةً ويطير معها أخرى، {أَحْيَيْنَاهَا} فأنزلنا عليها الماء الذي نفذ إلى أعماقها، والتقى بالعناصر الكامنة فيها، وبالبذور المنثورة في طيّات ترابها، فتفاعلت معه، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} من الحنطة والشعير والذرة والأرز والعدس ونحوها، {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} ليقيم حياتهم ويغذي كل أجهزتهم الجسدية، بما يصنعون منه من ألوان الطعام.

{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} من البساتين الممتدّة في رحابها، النضرة بأشجارها {مِّن نَّخِيلٍ} يتدلّى منها الرطب الجنيّ بأنواعه المختلفة في مذاقها وخصائصها، {وَأَعْنَابٍ} تتدلى منها أصناف العنب الشهيّ المتنوّع، { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} التي تمثل الخزانات الجوفية للمياه المتكونة من الأمطار التي تنفذ إلى أعماق الأرض، وتتحول ـ بفعل العوامل الطبيعية ـ إلى ينابيع وأنهارٍ تعطي الأرض حياةً ونضرةً وجمالاً، {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} الذي لا يحتاج إلى تصنيعٍ وإعدادٍ، بل يؤكل ناضجاً شهيّاً من خلال عناصر النضوج الطبيعية التي تحمل الغذاء في داخلها، {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} مما يحتاج إلى جهدٍ وطبخ ونحو ذلك، {أَفَلاَ يَشكُرُونَ} الله الذي خلق ذلك كله بألسنتهم في كلمات الشكر، وبحركات أعضائهم في أفعال الطاعة، في ما أمر الله به أو نهى عنه، وهذا ما يمثله الشكر العملي بما يفيده من الخضوع لصاحب النعمة من أجل الحصول على رضاه.

* * *

سبحان الذي خلق الأزواج كلها

{سُبْحَانَ الَّذي خَلَق الاَْزْوَاجَ كُلَّهَا} في ما تعنيه كلمة الزوجية من الذكورة والأنوثة، أو الجانب الموجب والجانب السالب، في تنوّعها في الشكل والطبيعة والآثار، {مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ} من الثمار والخضروات والورود ونحوها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} في الرجل والمرأة {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} مما خلقه الله من الموجودات التي أودع فيها قانون الزوجية حتى الذرّة التي هي أصغر الأشياء. إن التطلع إلى اختلاف الموجودات في أشكالها وعناصرها وصغرها وكبرها مع ملاحظة وحدتها في هذا القانون الطبيعي الذي تتمثل فيه الوحدة الكونية، لأكبر دليلٍ على عظمة الإبداع في قدرة الخالق وحكمته المطلقة، إذ ترتبط الأشياء ببعضها البعض من خلال حاجة كل زوجٍ إلى ما يتحد معه في حركة الوجود.

{وَآيَةٌ لَّهُمُ الليْلُ} الذي دخل النهار فيه فأشرق الكون من خلال نوره، {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ثم تدخلت قدرة الله فسلخت النهار من الليل { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} من خلال إحاطة الليل بالنهار وإبعاده عن الكون، وهذا الأسلوب جارٍ على سبيل الاستعارة بالكناية في تصوير المسألة الزمانية بهذا الشكل، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أي أنها تتحرك نحو مستقرها، أو إلى أن تبلغ مستقرها، أي استقرارها وسكونها بانقضاء أجلها، أو زمن استقرارها أو محلّه.

* * *

كيف نفهم جري الشمس؟

وقد جاء في تفسير الميزان أن «ظاهر النظر الحسي، يثبت لها حركةً دوريةً حول الأرض، لكن الأبحاث العلمية تقضي بالعكس وتكشف أن لها مع سياراتها حركةً انتقاليةً نحو النسر الواقع»[1].

وقد ذكر البعض أن جريها بمعنى حركتها الوضعية حول مركزها، وردّ عليه صاحب الميزان بأنه «خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكانٍ إلى مكان»[2].

وربما كان المقصود من الجري، الحركة المعنوية التي تعني امتدادها في الكون في نطاق النظام العام الذي يحكم الحياة حتى ينتهي أمده، حيث يبلغ مستقره بانتهاء دوره من خلال إرادة الله وحكمته في ذلك، كما نقول: إن الحياة تسير على نظام ثابت إلى نهايتها، أو أن الدولة تجري بطريقةٍ متوازنة، والله العالم.

* * *

والقمر قدرناه منازل

{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الذي خلق الأشياء بقوته التي لا تقهر، وأرادها بعلمه الذي لا ينتهي، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} وهي المواقع التي يقطعها القمر في دورته البالغة ـ كما قيل ـ ثمانية وعشرون يوماً وليلة تقريباً، {حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ} في دقّته، والمراد به عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته، وهو عود أصفر مقوّس يشبه الهلال.

وفي هذه الآية إشارة إلى اختلاف رؤية القمر من قِبَل الناس في مدى الشهر من حيث اختلاف نوره الذي يكتسبه من الشمس في ما يقرب من نصف كرته تقريباً، بينما يبقى النصف الآخر الذي لا يواجه الشمس مظلماً تماماً، فيظهر في صورة هلال رفيع الحجم كمثل الخيط ثم يكبر ويبدو نوره بدرجةٍ أقوى كلما اقترب من الشمس حتى يتحول إلى بدر ثم يبدأ النقصان فيه حتى يعود كما كان في أوّله.

{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ} في ما خطط لهما من النظام في موقع كلٍّ منهما، {وَلاَ الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بحيث يلغي وجوده فيتقدمه ليكون هناك ليلان متعاقبان أو نهاران متعاقبان، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} لأن لكل واحدٍ منهما مداره الفضائي الذي يتحرك فيه بحسب نظامه الكوني الذي قدّره الله له، وربما كان التعبير بالسباحة بحسب الفراغ العميق من الفضاء الذي تتحرك فيه الشمس والقمر، أمّا التعبير عنهما بأسلوب العاقل، فقد يكون بلحاظ الإيحاء بالانقياد والطاعة لما أراده الله لهما، كالعقلاء، كما ذكره البعض.

{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فقد سخّرنا لهم البحر وأخضعنا مياهه ليحملهم في السفن التي تتحرك بقدرة الله، في ما ألهم العباد علمه، ليحملوا ذريتهم وأمتعتهم إلى بلادٍ أخرى فيسهل عليهم أمر الحياة، {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ليسهل لهم التنقّل بين منطقةٍ وأخرى، مما يشق على الإنسان السير فيه بنفسه، ويحمّله عناءً شديداً، وقد تكون الإشارة إلى الأنعام كما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاَْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12]، وقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمن:22]. وربما كانت الإشارة إلى ذلك وإلى ما يستحدثه الإنسان من وسائل الركوب كالطيارات والسيارات ونحوها.

{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} يستجيب لصراخهم فيخلصهم من ضغط الأمواج المتلاطمة عليهم، {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} وينجون من الغرق، {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} في اللطف بهم وتخليصهم مما هم فيه، {وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} أي بقاءً لهم إلى أجلٍ مسمّى في ما قدّره الله لهم من الأجل المحدود في أعمارهم.

ـــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:17، ص: 89.

(2) م.ن، ج:17، ص:90.