من الآية 48 الى الآية 65
الآيــات
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* مَا يَنظُرُونَ إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ* فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ* قَالُواْ يا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ* فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ* هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ* لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ* سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ* وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ* أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تكُونُواْ تَعْقِلُونَ* هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ* الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (48ـ65).
* * *
معاني المفردات
{فَاكِهُونَ}: مرحون من الفكاهة.
{الأرَآئِكِ}: جمع أريكة وهي السرير.
{مَّا يَدَّعُونَ}: ما يطلبون.
{وَامْتَازُواْ}:انفردوا وابتعدوا عن أهل الخير والصلاح.
{جِبِلاًّ}َ: خلقاً.
{اصْلَوْهَا}: قاسوا حرها والزموا العذاب بها.
* * *
المؤمنون والكافرون في الموقف الحاسم يوم القيامة
ويستمر الحوار بين المؤمنين والكافرين عن التوحيد الذي امتد الحديث في الآيات الكونية الدالّة عليه، إلى اليوم الآخر الذي يحذّر المؤمنون الكافرين من نتائج الموقف الذي يقفونه فيه عندما يواجهون عذاب الله الذي ينتظرهم هناك، ويدعونهم إلى التقوى منه، بالإيمان بالله والسير على خط عبادته، ولكنّ الكافرين لا يواجهون المسألة باهتمامٍ وجدّيّةٍ، بل يعملون على الهروب من مناقشتها بطريقةٍ فكريةٍ، فيهربون إلى القضايا التي يخيّل إليهم أنها قد تُحرج المؤمنين بإثارة الأسئلة حول موعد اليوم الآخر الذي لا يملك المؤمنون تحديده، لأن الله لم يمكّنهم من معرفته.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} فقد تحدّد إجابتكم عن هذا السؤال مسألة صدقكم وكذبكم، لأن الصادق يعرف عادةً حدود ما يدعو إليه، وقد يكون هذا السؤال وارداً لإثارة سخرية السامعين عندما يواجه المؤمنون السؤال بحيرة، ولكنّ الله يصدم هذا الواقع كله بالصورة المخيفة المرعبة، فهؤلاء الذين يعيشون الاسترخاء اللاّهي العابث والسخرية بالإيمان والمؤمنين ويثيرون الجدل العقيم الذي لا يؤدّي إلى أيّة نتيجةٍ، لأنه لا يتحرك في خط الجدّية، ستصدمهم المفاجأة، على مستوى ما يحدث للجميع، كمجموعة، أو ما يحدث لهم كأفراد، لأن الحديث عن القيامة يختلف عن الحديث عن أيّة قضيةٍ أخرى من قضايا الحياة التي يختلف فيها الناس، لأن الناس كلهم قادمون إليها عبر جسر الموت الذي لا يمنح أحداً موعداً معيناً لزيارته، بل يأتي في أسلوب المفاجأة التي تصدم الزهو كله عندما تصدم الوجود كله.
{مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي صيحة الموت التي {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون ويتجادلون، وقد يراد بها نفخة الصور كما ذهب إليه البعض، {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} لأولئك الذين يهمّهم أمرهم من شؤون ما يتركونه خلفهم من أموال وأولاد وقضايا، {وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} عندما يكونون في أيّ مكانٍ آخر بعيدٍ عن أهلهم.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} في المرحلة التي يريد الله إحياءهم وإخراجهم من القبور إلى الموقف الكبير بين يدي الله، {فَإِذَا هُم مِّنَ الأجْدَاثِ} القبور { إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي يسرعون في المشي.
{قَالُواْ يا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} فها نحن نتحرك في حياةٍ جديدةٍ تضجّ في أجسادنا، فكيف حدث هذا، ومن الذي أبدع الحياة من جديدٍ بعد أن كنا أمواتاً، وكيف تكاملت أعضاؤنا، وكيف خرجنا من القبور، وكيف وكيف؟ من فعل هذا؟ وهنا أشرقت الذكريات في أفكارهم، واستمعوا إلى تاريخ حياتهم في وجدانهم العميق المنفتح على كل تفاصيل ما كانوا يسمعونه من الرسل، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ} في ما حدّثنا الرسل به {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} الذين أبلغونا رسالة الله، وتحدثوا معنا عن اليوم الآخر، فها نحن نواجه الحقيقة بشكل صارخ ونشعر بصرخة الويل تجتاح كل وجودنا، لأننا كنا ننكر البعث، ونتمرد بالمعاصي على الله سبحانه.
وتأتيهم المفاجأة الثالثة، وهي لقاء الله في موقف الحساب الدقيق الشامل لكل ما عملوا به {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} فها هم يُنقلون دفعةً واحدةً من الساحة التي كانوا يتداولون فيها الحديث عمّا كان وعما يكون إلى الموقف الحاسم أمام الله... فماذا هناك؟
{فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} مما عملت من خير أو شر، {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن العمل هو الأساس في القيمة السلبية أو الإيجابية عند الله، وهو الأساس في الثواب والعقاب، لأن الله لا يرتبط بأيّ شخصٍ من عباده إلا من خلال عمله، فهم متساوون أمامه في الخلق، فليس أحدٌ أقرب إليه من أحدٍ في ذلك كله.
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ} بنعيمهم الذي منحهم الله إياه في الجنة، {فَاكِهُونَ} في ما يقدّم إليهم من أنواع الفاكهة التي لا حصر لها، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} اللاّتي كنّ معهم في الدنيا أو من الحور العين اللاتي رزقهم الله في الآخرة، {فِي ظِلالٍ} من الأشجار الوارفة التي تقيهم حرارة الشمس، {عَلَى الأرَآئِكِ} التي يستندون إليها {مُتَّكِئُونَ} يتكئون عليها، {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} مما يشتهونه ويتمنونه ويطلبونه، {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فهذا هو النداء الرضيّ الآمن الذي ينطلق من الرب الرحيم الذي أفاض عليهم من واسع رحمته كل خير ليحيّيهم بالسلام الذي يُشيع في روحهم الرضى والأمن والطمأنينة، ويعيشوا السعادة كل السعادة في اللطف الإلهي الذي يرعاهم برعايته ويحنو عليهم بلطفه وعطفه ورحمته، {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}وقفوا جانباً، بحيث تتميزون عن المؤمنين، فلا تختلطوا بجمعهم، فليس طريقهم كطريقكم، وليس منهجهم كمنهجكم، فهمُ السائرون في خط الله، وأنتم السائرون في خط الشيطان.
* * *
عهد الله الى بني آدم بعدم عبادة الشيطان
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ} بما يثيره في عقولكم من مفاهيم الكفر، ويدعوكم إليه من خطوات الضلال، ويحرككم نحوه من أهداف الباطل، ويوسوس إليكم من وساوس الشرّ، فقد حذرتكم من الانقياد والاستسلام له في كل قضاياكم العامة والخاصة، لأن إطاعته نوعٌ من الانقياد الأعمى له، وذلك هو معنى عبادته التي نهيتكم عنها في أكثر من آية، وفي نداء كل رسول، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27].
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقد أعلن عداوته للناس عندما أخذ الوعد من الله بإمهاله إلى يوم الوقت المعلوم في ما حدثنا الله عنه بقوله تعالى: {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 ـ 17].
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراَطٌ مُّسْتَقِيمٌ} وذلك بالانقياد المطلق لله في الالتزام بدينه وشريعته وإطاعته في كل شيء، فهو الذي يصل بالإنسان إلى النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة ويحقق له السعادة في كل مجالات حياته، وهو الخط المستقيم الذي يحقق للإنسان التوازن بين الدنيا والآخرة في آفاق رضى الله.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أي جماعةً كثيرةً، بوسوسته وتزيينه وإغراءاته، {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} لأن العقل يدفع بالإنسان إلى أن يتلمس سبل سعادته عبر ما يختاره لنفسه بما يصلح أمره، لا سيّما في ما يتعلق بقضية المصير، ويبتعد عما يفسد أمره، فقد أودع الله في الإنسان العقل بما يستطيع أن يحدّد له مواقع الحسن والقبح، ومواضع الخير والشرّ، فلماذا جمّدتم عقولكم ومنعتموها عن الحركة في هذا الاتجاه، حتى وقعتم تحت تأثير شهواتكم، فوقعتم في دائرة سيطرة الشيطان الذي دفعكم إلى السير في طريق الضلال، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في ما جاءتكم به الرسالات، ووعدكم به الرسل في إنذارهم لكم على السير في طريق الكفر بالله والتمرد على طاعته، {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} وذوقوا حرارتها {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} برسالات الله، وبرسله وباليوم الآخر.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فلا تنبس ببنت شفة، فلا دور لها في التعبير عن الواقع، {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ} بما عملته مما يتصل بمسؤولية اليد في حركتها في دائرة العمل الإنساني، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} في الخطوات التي تحركت نحو الأهداف الخيّرة أو الشرّيرة، {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ولعل الاقتصار على الأيدي والأرجل، باعتبارها من الأعضاء التي تمثل الأدوات الغالبة على أفعال الإنسان، فيكون ذكرهما من باب المثال، كما ورد في بعض الآيات التي تحدثت عن شهادة الجلود، والأسماع، والأبصار.
تفسير القرآن