تفسير القرآن
يس / من الآية 77 إلى الآية 83

 من الآية 77 الى الآية 83

الآيــات

{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ* أَوَلَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ* إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (77ـ83).

* * *

معاني المفردات

{مَلَكُوتُ}: مبالغة في ملك الله وسلطانه.

* * *

وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه

في هذا الفصل من السورة ـ وهو الفصل الأخير ـ حديثٌ صريحٌ عن البعث بعد الموت {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} الذي يشاهد عملية الخلق في أمثاله من البشر الذين من حوله أو من صلبه، {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} كانت البداية في رحلة الحياة، فتحوّلت إلى علقة، ثم صارت مضغةً، ثم تحوّلت المضغة حتى صارت عظاماً، فكسونا العظام لحماً، وكانت النهاية هي اكتمال الخلق الذي يمثله هذا المخلوق السويّ الكامل الذي يفكر ويبصر ويسمع ويتحرك، {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} يثير الجدل المتحرك في أكثر من موقع حول التوحيد والبعث، فكيف يجادل في ذلك وهو يرى عظمة القدرة في خلقه الذي يكشف عن عظمة الخالق الذي خلقه؟ وكيف يجادل في البعث وهو يرى عظمة البدء التي تطلّ على إمكانية الإعادة؟

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} في ما طرحه من العظام البالية التي تتفتت، وتساءل متعجباً من طرح فكرة المعاد من موقع الحقيقة، {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} فلم يلتفت إلى عمق القدرة وروعة الإبداع في مسألة الإيجاد من عدم، أي لم يسبقه نموذج ولا مثال، {قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي بالية... قالها، وهو مستغرق في غفلته، مشدودٌ إلى القدرات المحدودة المحيطة به، العاجزة عن أيّ شيء من هذا القبيل، من خلال الموقع المادي للقدرة.

{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فأنت لا تنكر الخالق الذي خلق الإنسان وخلق لحمه وعظامه، فإذا كنت تعترف به فإنك تستطيع أن تأخذ فكرةً عن إمكان البعث، لأن القادر على الإيجاد من العدم قادرٌ على الإعادة، لأن عملية الإيجاد الثاني مسبوقةٌ بالنموذج، ما يجعله أقرب إلى السهولة من الإيجاد الأول الذي لم يسبق بمثال... {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } لإحاطته بكل عناصره التي تحكم عملية الوجود، فلا يمتنع عليه شيء من جهة العلم ولا من جهة القدرة.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} وهذا تقريبٌ حسّيٌ للفكرة المعنوية التي تسيطر على أذهانهم في استبعاد انطلاق الحياة من قلب الواقع المادي للموت في مسألة البعث، لأن الحياة والموت حقيقتان متضادتان، فهذا المثل يصوّر خروج النار من قلب الشجر الأخضر الذي يقطر ماءً، والمراد منه ـ كما جاء في مجمع البيان ـ «المرخ والعفار، وهما شجرتان يتخذ الأعراب زنودها منهما»[1]. وتقول العرب: في كل شجر نار واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَار، أي استفضلا واستكثرا من النار، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما فصلحا للاقتداح بهما، فيجعل العفار زنداً أسفل ويجعل المرخ زنداً أعلى، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله، وبذلك تبرز الفكرة في نطاق القدرة، فإذا كان الله قادراً على أن يجعل النار من قلب الشجرة الخضراء، فهو قادر على أن يجعل الميّت حيّاً، لأن مشاكل التفاعل بينهما تتحدى قدرة الإنسان ولا تتحدى قدرة الله سبحانه.

{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} وهذا هو السؤال الكبير الذي يواجه المنكرين للبعث، فهم يقرّون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، في هذا النظام البديع الرائع الذي يتحرك بكل دقّةٍ وإتقان وروعةٍ في دائرة القوانين الطبيعية المودعة في داخله، بكل مفردات الظواهر المتحركة فيها، فإذا كانت القدرة الإلهية بهذا المستوى العظيم، فهل يعجز عن خلق هذه المخلوقات الإنسانية الصغيرة التي تتجمع من أجزاء مادية متناثرة محدودة، ونفس حيّة وكلها في علم الله، وذلك بإعادتها من جديد؟! {بَلَى} فإن القادر على الوجودات الضخمة قادر على الوجودات الصغيرة {وَهُوَ الْخَلاّقُ} الذي يخلق خلقاً بعد خلق، {الْعَلِيمُ} الذي يحيط بكل عناصر خلقه وبكل أوضاعها.

* * *

مع صاحب تفسير الميزان

وقد قرّب صاحب تفسير الميزان استفادة معنى إعادة الخلق للجزاء بعد الموت من قوله {عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} تقريباً فلسفياً دقيقاً ننقله بتمامه، قال: «بيانه أن الإنسان مركب من نفس وبدن، والبدن في هذه النشأة في معرض التحلّل والتبدّل دائماً، فهو لا يزال تتغير أجزاؤه، والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، فهو في كل آنٍ غيره في الآن السابق بشخصه، وشخصية الإنسان محفوظة بنفسه ـ روحه ـ المجرّدة المنزهة عن المادّة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد.

والمتحصل من كلامه تعالى، أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظةٌ حتى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:10 ـ 11].

فالبدن اللاَّحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه، لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله، لأن الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها.

ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: {مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} راجعاً إلى خلق البدن الجديد دون النفس، أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم، وأمَّا عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديداً، فتكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيي الْمَوْتَى} [الأحقاف:33] فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم، فقال: {عَلَى أَن يُحْيي الْمَوْتَى} ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى»[2].

وقد نلاحظ على هذا الكلام، بأن هذا الفرق بين المثل والعين قد يكون ملحوظاً من الناحية الفلسفية الدقيقة بالطريقة التي ذكرها العلامة الطباطبائي، ولكنه ليس ملحوظاً من الناحية العرفية التي جرى التعبير بلحاظها في هذه الآية على أساس الموازنة بين حجم السماوات والأرض وبين حجم الإنسان في مسألة الخلق، بقطع النظر عن التفاصيل، أما مسألة إرادة الإعادة بعد الموت فتستفاد من سياق الكلام، وبذلك يكون المراد من مثلهم أنفسهم على طريقة الكناية، كما ورد استعماله في أكثر من مورد.

* * *

إذا أراد الشيء... كن فيكون

{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي أن شأن الله أو طريقته في إيجاد الأشياء وتكوينها أن تتعلق إرادته بها فتوجد من دون حاجةٍ إلى أسبابٍ ومقدّماتٍ، لأن إرادته لا تتخلف عن مراده، وقد كان التعبير بإصدار الأمر له بالوجود على سبيل الكناية، لا على نحو الحقيقة، وهو ظاهر.

وقد جاء في نهج البلاغة: «يقول لمن أراد كونه: «كن فيكون»، لا بصوتٍ يقرع، ولا بنداءٍ يُسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثَّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً»[3].

وفي موضع آخر منه: «يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر»[4].

وفي كتاب الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمَّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر، وهذه الصفات منفيّة عنه، وهي صفات الخلق. فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون بلا لفظٍ ولا نطقٍ بلسان ولا همةٍ ولا تفكر ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له»[5].

{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} والملكوت ـ كما قيل ـ مبالغة في الملك، فهو مسلّط على الملك كله، في وجود الأشياء بأجمعها، وفي تدبيره للإنسان في موته وحياته وإعادته إلى الوجود ثانياً، وفي غير ذلك، فلا يستبعد منه شيء في تفاصيل وجود الأشياء مهما كان عظيماً، لأن قدرته تتساوى أمام العظيم والحقير، والكبير والصغير، لأن سرّ وجودها هو إرادته المتعلقة بها من دون شيء آخر.

{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وتعودون أحياءً بعد الموت، فاستعدوا لذلك لتعرفوا كيف تواجهون الموقف، وكيف تتصرفون في ساعة الحساب.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:4، ص:679.

(2) تفسير الميزان، ج:17، ص:114.

(3) نهج البلاغة، ص:274، خطبة:186.

(4) م.س، ص:274، خطبة:186.

(5) الكليني، الكافي، ج:1، ص:109، رواية:3.