تفسير القرآن
الصافات / من الآية 83 إلى الآية 113

 من الآية 83 الى الآية 113
 

الآيــات

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ* إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ* أئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ* فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِين* فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ* مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ* فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِين* فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ* قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ* قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ في الْجَحِيمِ* فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِين* وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين* فَبَشَّرْناهُ بِغلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يا بُنيَّ إِني أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين* وَنادَيْناهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرينَ* سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين* وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِم لِّنَفْسِهِ مُبِين} (83ـ113).

* * *

معاني المفردات

{شِيعَتِهِ}: شيعة الرجل الجماعة السائرون على طريقته ودينه.

{أَئفْكاً}: افتراءه زوراً وباطلاً.

{أَسْلَمَا}: استسلما لأمر الله.

{وَتَلَّهُ}: صرعه وألقى به على الأرض.

{لِلْجَبِين}: عن يمين الجبهة وشمالها، والجبهة مكان السجود.

* * *

إبراهيم وإسماعيل أمام التجربة الإيمانية الصعبة

وهذا حديثٌ في خط الرسالة عن عبدٍ من عباد الله المؤمنين تنوعت حركة حياته في مواجهة التحديات الصعبة، وفي الاستسلام المطلق لله بالمستوى الذي يتمثل فيه الإيمان الصافي والعبودية الحقّة، في شعورٍ عميق بأنه لا يملك أيّ شيء أمام الله، ولا حُرِّيّة له بين يديه.

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراَهِيمَ} أي من شيعة نوح وأتباعه، بما يمثله التوافق في الخط الرسالي الملتزم بالله فكراً وعملاً، باعتبار أن كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته، سواء تقدّم أو تأخّر. وقد يكون في هذا الحديث عن إبراهيم من بعد نوح، واعتباره شيعةً له، بعض الإيحاء بوحدة الخطوط العامة للرسولَيْن وللرسالتين، وبالانفتاح على الحياة كلها في الخط العملي. وقد نستوحي من إهمال الحديث عن نبيٍّ آخر بعد نوح، وجود فراغٍ رسوليٍّ بينهما، لعدم الحاجة إلى ذلك، بفعل المبلّغين الذين قد يكونون خلفاء أو أوصياء لنوح في دائرة رسالته، أو لعدم وجود وقتٍ كبير بينهما، لأننا لا نملك معرفةً للفاصل الزمنيّ بين الرسولين.

{إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من كل شائبة من شوائب التعلّق بغير الله، ما يجعله منفتحاً على الله بكل عمقه وتطلّعه وشعوره، فلا مكان لغيره في داخله، في ما يعنيه ذلك من التصور الصافي للمضمون الإيماني بالله، والشعور النقيّ بالعلاقة به، والالتزام بما يحبه ويرضاه.

وهكذا كانت علاقته بالله من الموقع العميق القويّ، وهو القلب الذي قد يكون موقعه العقل في دائرة الفكر، أو الحسّ في موقع الشعور، ولهذا فقد كان يواجه الأمور بعفويّةٍ وبساطةٍ مما يجعله يسمِّي الأشياء بأسمائها من دون تعقيدٍ، ولهذا كان إحساسه الصافي بالخطأ الفادح في سلوك أبيه وقومه دافعاً له إلى توجيه سؤاله الساذج في شكله، العميق في مضمونه.

{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} هل هناك أساسٌ لعبادتكم لهذه الأصنام وكيف تعبدونها؟ هل أنتم جادّون في ذلك، أو أن للقضية بعداً آخر؟ {أئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}َ كيف تؤلّهون غير الله، وهو الخالق، وهي المخلوقة له، هل هذا إلا افتراءٌ على خط الألوهية وعلى الحقيقة الكامنة فيها؟ {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وكيف تفكرون به، أو تنظرون إليه، أو كيف ينظر إليكم لعبادتكم الأصنام، أو هل تعرفون موقع قدرته وعظمته، مقارنةً بما لدى الآخرين من عباده؟

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} في عملية تطلّعٍ إلى الأفق الواسع الذي تتناثر فيه النجوم التي كان بعض الناس في زمانه يتعبد إليها، أو في عملية استشفاف للوقت الذي كانت العلة أو النوبة المرَضيّة من الحمى تعتريه فيه، أو لغير ذلك، {فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ} أيّ في حالةٍ نفسيّةٍ أو ذهنيّةٍ قلقةٍ، لا استقرار فيها، أعيش معها الشك الذي يعيشه الباحث عن الحقيقة في دائرة الاحتمالات الكثيرة التي تتجه يميناً أو شمالاً، كالمريض الذي يعيش الاهتزاز من البرد، في نوبةٍ من نوبات الحمّى، أو في حالةٍ مرضيّةٍ جسدية تمنعه من الخروج مع قومه إلى حيث يريدون لحضور عيدٍ لهم، أو غير ذلك، ليخلو إلى ما يريده من تنفيذ الخطة المدبّرة للأصنام.

{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} ولم يعيروا له انتباهاً، لأنهم لم يخطر لهم في البال بأنه سوف يقوم بما قام به من حملةٍ مدمِّرةٍ ضد الأصنام، فلم يكونوا قد أخذوا حديثه في رفضها مأخذ الجد، بل اعتبروه من أحاديث المراهقين الذين يتحدثون بطريقةٍ انفعالية لا مجال فيها للتركيز. {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} مال إليها وحاد من جهةٍ إلى جهةٍ، تماماً كمن يستعد للدخول في معركة، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} فقد حان وقت الطعام الذي يحتاج الأحياء إلى تناوله من أجل استمرار حياتهم، {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} لماذا أنتم جامدون، خاضعون للصمت الرهيب الذي يلفّ وجودكم، فلا حركة، ولا صوت، ولا كلمة... وما هذه الأشكال الإلهية المزعومة التي لا تمثل شيئاً، ولا تعني أيّ شيءٍ؟ وثارت في داخله النقمة عليهم {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي باليد اليمنى، أو بالقوّة التي تمثلها، فكسر رؤوسهم وحطّم تماثيلهم.

{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي يسرعون في المشي، وهم في حالة رعبٍ وهولٍ وثورة، وتساءلوا عن الذي قام بهذا العمل الشنيع ضد الآلهة، {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} مما عملته أيديكم، فكيف تعبدون ما صنعتموه مما تعرفون طبيعة عناصره وسرّ معناه، فلا معنى لأية قداسةٍ مزعومة، لأنها ليست شيئاً خفيّاً لا تعرفونه حتى يشتبه عليكم الأمر في عمقها القدسي، بل هي شيءٌ واضحٌ بيّن، فقد كانت الأصنام تراباً، كأيّ ترابٍ، أو خشباً كأيّ خشب، أو شيئاً آخر كبقية الأشياء...، فما الذي حدث حتى ميزتموها عن عناصرها غير المصنوعة، هل هو الشكل الذي صنعتموه؟ وهل يغيّر الشكل طبيعة المضمون؟ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فأنتم مخلوقون لله، كما أن العناصر التي تتألف منها الأصنام المعبودة لكم، مخلوقة له، فكيف تنحرفون عن عبادة الله وتعبدون غيره؟

لقد قال لهم كل هذا الكلام، بعد أن ثار الجدل بينه وبينهم واكتشفوا أنه الفاعل، ليدافع عن موقفه، فهو لم يضرب رؤوس الآلهة ليثوروا بهذه الطريقة، بل ضرب رؤوس أحجارٍ جامدة مصنوعةٍ للإنسان في أشكالٍ معينة. {قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً} وأوقدوا في داخله النار، {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} لأنهم لم يستطيعوا مقارعة الحجة بالحجة، فعمدوا إلى استعمال القوّة ضده كما يفعل العاجزون عن المواجهة الفكرية.

{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} ليقتلوه ويرتاحوا من معارضته ودعوته التغييرية، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} حيث قال الله من موقع إرادته التكوينية: {يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسلامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69].

وأُغلقت هذه الصفحة من تاريخ إبراهيم في بداية الدعوة، ليبدأ مرحلةً جديدةً، فقد كان من الواضح أنه لا يستطيع البقاء مع قومه ليتابع دعوته إليهم بالتوحيد، بعد الموقف العدائيّ الذي وقفوه منه. لذلك، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} فقد عزم على الهجرة من بلده أور الكلدانية ـ في بابل ـ إلى بلاد الشام، ليتفرغ لعبادة ربه، وليبدأ تجربةً جديدةً من تجارب الدعوة في موقع جديد قد يكتشف فيه ساحة مميّزة يملك فيها حرية الحركة لما يريد قوله وفعله. وهناك تزوّج واستقر به المقام، فطلب من الله أن يرزقه ولداً صالحاً، حيث كان يتوجه بحاجاته إلى ربّه من خلال روحية الإيمان التي تجعل الإنسان المؤمن ينفتح على الله في كل حاجاته، من موقع أنه لا يملك أيّ شيء إلا به ومنه.

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ} فهو لم يطلب ولداً، أيَّ ولدٍ، من خلال إرضاء غريزة الأبوة في داخله، بل أراده ولداً صالحاً يتحرك في طاعة الله، ليعزز خط الصلاح في الحياة المرتكز على قاعدة الإيمان بالله، لأن المؤمن الذي لا يبتعد عن الرغبات الطبيعية في شخصيته، يبقى ـ دائماً ـ في هاجس العلاقة بالله وبالحياة الإيمانية في كل قضاياه. واستجاب الله دعاءه فرزقه إسماعيل {فَبَشَّرْنَاهُ بِغلامٍ حَلِيمٍ} في ما تمثله هذه الصفة الإنسانية من وداعةٍ وهدوء طبع، وصفاء روح وانفتاح على كل الناس، ولكن الله كان يُعدّ له مفاجأة مدهشةً صعبةً، فقد أراد ابتلاءه وامتحانه في محبته له، ليظهر فضله للناس، وليكون قدوةً لهم في المواقع التي يبحثون فيها عن القدوة الحسنة الرائدة في المعنى المتجسّد للإيمان.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} وأصبح يتحرك معه في غدواته ورواحه، بعد أن بلغ من العمر سنّ الرشد الذي يستطيع معه السعي في حاجاته وحاجات الآخرين، {قَالَ يا بُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُك} وهذا، في وعي النبوّة، أمرٌ إلهيٌّ يدفعه للقيام بهذه المهمة امتثالاً لأمر الله، لأن الرؤيا الصادقة التي يحس فيها النبي باليقين الرساليّ تمثل أسلوباً من أساليب الوحي الإلهي، {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} لأن المسألة خطيرةٌ بالنسبة إليك، وهي تدفعك لتفكر تفكيراً عميقاً في الموضوع، وأنا والدك الذي لا يحب أن يقدم على التنفيذ إلا بعد أن تأخذ قرارك فيه، بالمقدار الذي يتعلق بك، ليكون الموقف واحداً في امتثال أمر الله، مع صعوبته الذاتية بالنسبة إلينا جميعاً.

ولعل إبراهيم كان يعرف بأن ولده سيستجيب لنداء الله، لما يعرفه من إيمانه وإسلامه له وصلاحه في خط الشريعة الحقة، ولم ينتظر إبراهيم طويلاً، فقد أجابه ولده فوراً، بشكل حاسم: {قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} فإذا كانت هذه إرادة الله، فلتكن إرادته هي الحاكمة علينا في كل أمورنا، لأننا لا نملك من أنفسنا إلا ما ملّكنا إياه، فهو المالك لنا جميعاً، ما لا يجعل لنا مسألة الاختيار، التي لو ملكناها، لكان اختيارنا تبعاً لإرادته، و{سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فلن أجزع ولن أتهرّب، بل سأقدّم نفسي للذبح من موقع المستسلم لله، الخاضع لأمره ونهيه، الخاشع في عبادته، فتلك هي إرادتي، وسأثبت عليها بمشيئة الله، لأن كل ما أتحرك به أو أتصف به هو هبةٌ منه في اختياره لعباده.

{فَلَمَّا أَسْلَمَا} وجههما وأمرهما وحياتهما لله ورضيا بقضائه، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه على أحد جانبي جبهته، وهو الجبين، {وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} فلم تكن الصورة في الرؤيا أنه يذبح ولده، بل كانت هي أن يبدأ بالعملية بطريقةٍ إعدادية توحي بالجدِّية والانتهاء بها إلى نتيجتها الطبيعية، كما أن الأمر الصادر من الله ليس أمراً جليّاً، بل هو أمر امتحانيٌّ للاختبار ولإظهار الموقف الإسلامي البارز في حركة الإيمان بالله والاستسلام له بشكل صارخ، في ما يتمثل به موقف إبراهيم وإسماعيل في التحرك نحو الامتثال، ولم يكن هناك مصلحةً حقيقيّةٌ في ذبح إبراهيم لإسماعيل كفعلٍ معيّن في ذاته. و {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الجزاء الأحسن في الدنيا والآخرة بعد أن نبتليهم ابتلاءً شديداً، ونمتحنهم في موقع الطاعة بالموقف الصعب، فينجحون في الامتحان بفعل ما يُظهرونه من موقفٍ عظيم في الطاعة لله، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} لشدة ما كان ابتلاء إبراهيم شديداً، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ذكرت الروايات أنه كبش عظيم جاء به جبريل(ع) من عند الله، ليكون فداءً عن إسماعيل بدلاً منه.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرينَ*سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} كرمز لاحترام موقفه، ليكون ذلك عبرةً للآخرين في ما يريدهم الله أن يؤكدوا به موقفهم الإسلامي في طاعته، وتحيةً للقدوة الرائدة المتمثلة في شخص هذا النبي العظيم الذي تقدم بكل وداعة الإيمان وصفاء الإسلام وقوّة الإخلاص لله، ليذبح ولده الذي تجاوب معه فاستعدّ لتقديم نفسه قرباناً، في ما يريد الله له ولأبيه أن يجسّداه من طاعة. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الذين يتحركون من قاعدة الإيمان ليؤكدوا صفة العبودية لله، كموقفٍ حيٍّ للطاعة والانقياد، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِين} الذي كان تالياً لإسماعيل في بنوّته لإبراهيم، ما يوحي بأن الذبيح هو إسماعيل، لا إسحاق، كما يروي البعض، {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} بما أغدق الله من اللطف الإلهيّ عليهما مجسداً ببركة النبوة في حركتها الداعية إلى الله، {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في الإيمان بالله والالتزام بنهجه وشريعته، {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} في الانحراف عن الإسلام، والبعد عن خط طاعته، {مُبِينٌ} في وضوح الموقف المنحرف، ولكل واحدٍ منهما جزاءٌ على ما عمله من خير أو شرّ، لأن المسألة ليست مسألة الأب الرسول، بل مسألة الشخص المسؤول في فردية التبعة والجزاء.

* * *

كيف نستوحي القصة الرسالية؟

وهكذا نجد في قصة إبراهيم معنى الشجاعة في الموقف الرسالي، على خط البطولة الروحية التي استمدّت حيويتها وثباتها وصلابتها من الإيمان بالله والانفتاح عليه، والوعي للسرّ الإلهي المتمثل في الألوهية المطلقة التي تحتوي العباد في العمق الشامل لكل مفردات حياتهم، بحيث لا يجد الإنسان لنفسه أيّة حريّة ذاتيّة أمام الله، عندما يريد منه القيام بأيِّ عمل، فعلاً أو تركاً، سواء كان الأمر متعلقاً بموقفه من نفسه على صعيدٍ يتصل بحاجاته الخاصة، أو بموقفه من عاطفته، مما يتصل بأهله وولده، أو بموقفه من الآخرين في حياته العامة، وذلك على مستوى علاقاته بقومه، ويتم هذا السلوك على مختلف الاتجاهات في صفاءٍ روحيٍّ، ووداعةٍ إنسانيّةٍ، واستسلامٍ عباديٍّ، لا يشعر فيه المؤمن بانسحاق الإرادة، بل يجد فيه، بدلاً من ذلك، إرادة الحركة الفاعلة في وعي الذات للعبودية التي تملك حريتها في الكون من موقع استسلامها لله وتمرّدها على كل من عداه.