من الآية 133 الى الآية 148
الآيــات
{وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرينَ* وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين* وَبِاللّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فآمَنُواْ فَمَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينٍ} (133ـ148).
* * *
معاني المفردات
{الْغَابِرِينَ}: الباقين مع الذين كفروا.
{مُّصْبِحِينَ}: داخلين في الصباح.
{أَبَقَ}: فرَّ.
{فَسَاهَمَ}: المساهمة: المقارعة.
{الْمُدْحَضِينَ}: المغلوبين.
{مُلِيمٌ}: فعل ما يستحق عليه العقاب.
{بِالْعَرَآءِ}: المكان الخالي.
* * *
وقفة مع دعوتي لوط ويونس
وهذان رسولان فرعيّان من عباد الله المؤمنين أرسلهما الله إلى مجموعاتٍ محدودةٍ معيّنةٍ من الناس لتغيير الواقع الكافر أو الضال، على مستوى الفكر والممارسة، فكانت النتيجة أن الأول لم يوفّق لهدايتهم، فعذّبهم الله بالخسف وبإمطار الحجارة عليهم، أما الثاني، فتتحدث الآثار الدينية عن نجاح دعوته حيث تابوا إلى الله ورجعوا إليه.
* * *
لوط الرسول
{وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين يملكون الموقف الرساليّ الصلب الذي يتميز بالقلب الكبير والصبر القويّ، رغم ما كان يعانيه من تعسف قومه وغطرستهم ورفضهم لدعوته وتهديدهم له حتى قارب وضعه درجة الخطر، {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ممن اتبع دعوته وتضامن معه، {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي زوجته الكبيرة السنّ التي تمردت على الإيمان، واتبعت قومها في خط الكفر، فخانت زوجها في رسالته، فلم يغن عنها موقعها الزوجي من الرسول شيئاً، فلقيت جزاءها مع قومها الكافرين في عذاب الدنيا قبل الآخرة، {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرينَ} وأهلكناهم بالعذاب الشديد النازل عليهم بالحجارة الملقاة عليهم من السماء، وبالخسف الذي احتواهم في الأرض.
{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ*وَبِاللّيْلِ} مما تمرّون عليه من ديارهم الخربة القريبة من خط سيركم صباحاً ومساءً عندما تذهبون وترجعون، لأنها تقع في طريق الحجاز إلى الشام التي تمر عليها القوافل ـ كما قيل ـ، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتأخذون العبر مما حدث في التاريخ، إن إمعان العقل في التفكير يدفع لملامسة النتائج السلبية التي تترتب على الإصرار على الكفر، والامتداد في خط الضلال، والتعسّف في مواجهة الأنبياء.
* * *
من قصة يونس
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وهذا رسولٌ آخر عاش مع قومه مدّةً طويلةً لم يستجب له فيها منهم الكثيرون، فخرج مغاضباً، احتجاجاً على ذلك، من دون أن يتلقى أيّة تعليماتٍ من الله تدعوه للخروج، اقتناعاً منه بأن الساحة لا تحتاج لبقائه، فقد قام بدوره كما يجب، ولم يدّخر جهداً في الدعوة إلى الله بكل الأساليب والوسائل، ولم يبق هناك شيء مما يمكن عمله، ولكن الله اعتبر عمله نوعاً من الهروب في ما يمثله ذلك من معنى الإباق، تماماً كما هو إباق العبد من مولاه.
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي السفينة المملوءة بالناس، فركبها كفردٍ من الناس من دون أن يعرف أحدٌ شخصيته المميزة، وكانت المفاجأة أن حوتاً عرض للسفينة، مما كان يفرض تقديم شخصٍ من الركاب له، ليبتلعه ليذهب بعيداً عنها، فلا يهاجمها أو يغرقها. {فَسَاهَمَ} أي دخل في عملية خلط السهام، وهي القرعة التي يراد بها استخراج اسم أيّ شخص من الركاب ليقفز إلى البحر، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي المغلوبين، وهكذا تمّ إلقاؤه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي ذو ملامة يعيش لوم نفسه على ما فعله {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الذين يبتهلون إلى الله بأسلوب التسبيح الذي يعبّر عن عظمة الله بما يمثله ذلك من عمق العبوديّة، وروحية الابتهال، وحسّ الخشوع، ما يجعله موضعاً لرعاية الله ورحمته ولطفه وإحسانه، {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي لأكله الحوت كما يأكل المخلوقات الأخرى، فيصير جزءاً من جسده، فيبعث منه كما يبعث الميت من قبره، وهو وارد على سبيل الكناية.
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ} وهو المكان الخالي الذي لا شجر فيه، ولا شيء يغطيه {وَهُوَ سَقِيمٌ} عليل مما حلّ به، {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} وهي القرع لتظلله {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ربما يستوحي بعضهم من هذه الآية أن رسالته كانت متأخرةً عن هذا الحدث الذي حلّ به، لأن الحديث عن الرسالة جاء بعد الحديث عنه، وربما كان المراد به الحديث عن موقعه في صلته الرسالية بعيداً عن التوقيت، وهناك احتمالات أخرى {فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي إلى أجل مسمّى، وربما يستشعر البعض من هذه الفقرة من الآية، الإشارة إلى ما ورد في سورة يونس في قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَياةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
وعلى ضوء ذلك استفاد «صاحب الميزان» من سياق الكلام «أن المراد من إرساله في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ} أمره بالذهاب ثانياً إلى القوم، وبإيمانهم في قوله: {فَآمَنُوا...} إيمانهم بتصديقه واتباعه بعدما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب»[1].
وقد نلاحظ على ذلك أنه لم يرد في كل الآيات المتعرضة لقصة يونس أنه كان مرسلاً إلى قومه قبل التقام الحوت إياه، لنستفيد من الآية المذكورة أنه أرسل إليهم ثانياً، هذا بالإضافة إلى أن الظاهر من إيمانهم هو الإيمان بالله، مما لا يتناسب مع ما تذكره قصته من إيمانهم بعد خروجه منهم مغاضباً.
وقد يكون الحديث عن إيمانهم وكشف العذاب عنهم، باعتبار أنَّ ذلك يمثل ظاهرةً مميّزةً في أمم الرسل الذين تحدث عنهم القرآن في رفضهم لرسالة رسلهم، وليس من الضروريّ أن يكون المراد بكشف العذاب عنهم هو رفعه بعد نزوله، بل يكفي في ذلك استحقاقه لهم قبل إيمانهم عندما كانوا كافرين. ومهما كان، فإن هذه الأمور ليست دخيلةً في الفكرة التي أراد القرآن أن يثيرها، وهي قصة البلاء الذي نزل به، ونعمة الله عليه في رفعه عنه بعد استغاثته به، في جوّ غريبٍ عن المألوف عكسه استمرار حياته في بطن الحوت، مع عدم وجود أيّة فرصةٍ للحياة هناك، ما يجعل القضية في حجم المعجزة، الأمر الذي يدل على كرامة الله له، وهذا يوحي به الحديث عنه، بأنه كان من المؤمنين الصالحين، ثم الحديث عن قومه في إيمانهم بالله، مما يُعتبر ظاهرة في مسألة الرسالات القديمة.
ـــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:17، ص:166.
تفسير القرآن