تفسير القرآن
الصافات / من الآية 149 إلى الآية 179

 من الآية 149 الى الآية 179

الآيــات

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ* أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ* أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين* مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ* فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ* مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ* إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ* وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ* وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ* لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأوَّلِينَ* لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ* فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ* أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ* فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ* وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}        (149ـ179).

* * *

معاني المفردات

{بِفَاتِنِينَ}: بمضلّين ومفسدين.

{صَالِ الْجَحِيمِ}: معذَّب فيها.

* * *

القرآن يردّ على المشركين

وهذا حديثٌ عن بعض التصورات المنحرفة المتخلّفة عن الملائكة والجن في مسألة انتسابهم إلى الله، وفي اعتبار الملائكة إناثاً، وعن مناقشة هذه الأفكار، ويمتد الحديث إلى انتصار الإسلام على هؤلاء المشركين، بعد مرور مدة قليلةٍ على حركة الرسالة الأولى في أوساطهم.

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} وذلك من خلال تصوّرهم أنّ الملائكة بنات الله، فمن أين جاءت هذه الفكرة؟ وكيف ينسبون إلى الله البنات اللاَّتي يمثّلن عندهم الموقع المنحطّ في التقييم الإنساني ويرضون ذلك لله ولا يرضونه لأنفسهم، باختيارهم البنين لهم؟ وما الدليل على ذلك الذي يتصورونه ويدّعونه؟ {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} فهل كانوا شهوداً على خلقهم في بداية الكون، لتكوك المسألة لديهم في مستوى المحسوسات!؟

{أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} من الباطل الذي لا يملكون حجة عليه {لَيَقُولُونَ*وَلَدَ اللَّهُ} فينسبون إليه الولد، ليعطوه صفة البشر في الحاجة إلى ذلك من موقع ما يعانونه من الحاجة إلى امتداد حياتهم بعد الموت بحياة أولادهم، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لأن المسألة ليست في موقع الحقّ، لاستحالة ذلك على الله بالمعنى المادي وبالصورة المعنوية التي ترتبط بالحاجة، بالإضافة إلى فقدان الحجة على ما يقولون، كأيّ فكرٍ لا أساس له.

{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} في عملية الاختيار الإلهي كما يدّعون، {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في ما تصدرونه من الأحكام السريعة التي لم تصدر عن عمق في التفكير، بل صدرت عن أوهام متخلّفةٍ لا معنى لها، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بما تمثله الذكرى من عناصر الفكر الذي يحاكم الأمور بدقّةٍ، بالمستوى الذي يفتح عقول الناس على الحقائق، فتزول عنها غشاوات الغفلة التي تبعدها عن التصور الصحيح، ليعيش الإنسان يقظة الروح في تصوره للحقيقة الإيمانية في معنى الله، {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} يفرض نفسه على الفكرة المطروحة ليؤكدها ويطرد الفكرة الأخرى المضادة، عبر ما يمثله السلطان الفكري من معنى الحجة العلمية في ساحة الفكر.

{فَأْتُواْ بِكِتابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} إذا كان لكم كتاب يتحدث عن هذه العقيدة في صفة الملائكة وعلاقتهم النسبية بالله، وربما كان المقصود الكتاب النازل من الله، وربما كان المقصود المعنى الكنائي عن الدليل القاطع.

وهكذا يظهر في هذه الآيات أسلوبٌ قرآنيٌّ يؤكد على أنّ الأساس في قضية العقيدة هو البرهان العقلي الذي يرتكز على قاعدةٍ فكريّةٍ، فلا مجال لعقيدةٍ مبنيّةٍ على الظن أو الوهم، ما يجعل من مسألة الخلاف العقيدي للإسلام مع الآخرين مسألة تتحرك نحو الحوار على أساس الأدلة العقلية والعلمية، لا على أساس الانفعال.

{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فاعتبروا الجن أولاد الله، ولذلك فقد أحلّوهم مقاماً رفيعاً في المنزلة، وارتفعوا بهم عن مستوى الحساب والجزاء لما لهم من ميزة القربى بالله، فلا يمكن لله أن يعذّب أولاده.

{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فهم يزعمون للجن من الصفات والامتيازات ما لا يدعونه لأنفسهم، فإن الجن يعرفون أنهم مخلوقون لله، مملوكون له، ومحاسبون ـ غداً ـ أمامه عندما يحضرون في القيامة، أمامه، ليحاسبهم على أعمالهم، فيثيب المحسن ويعذب المسيء، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وتعالى في عظمته عن نسبة الولد إليه من هؤلاء الذين لا يفهمون حقيقة الألوهية، ولا يعرفون عظمة الله الذي ليس كمثله شيء، فيصفون الخالق بصفة المخلوقين.

{إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكن عباد الله المخلصين لا يصفونه بذلك، بل ينزهونه عما لا يليق به ـ على سبيل الاستثناء المنقطع ـ وقد ذكر البعض من المفسرين "أن ضمير {عَمَّا يَصِفُونَ} راجعٌ إلى الناس، فيكون المعنى: إن الله منزهٌ عن كل ما يصفه الواصفون إلا عباد الله المخلصين، وذلك أنهم يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم، وهو ـ سبحانه ـ غير محدود لا يحيط به حدٌّ ولا يدركه نعتٌ، فكلّ ما وُصف به فهو أجلُّ منه، وكل ما توهم أنه هو فهو غيره، لكنّ له ـ سبحانه ـ عباداً أخلصهم لنفسه، وخصهم بنفسه، لا يشاركه فيهم أحدٌ غيره، فعرفهم نفسه وأنساهم غيره يعرفونه ويعرفون غيره به، فإذا وصفوه في نفوسهم، وصفوه بما يليق بساحة كبريائه، وإذا وصفوه بألسنتهم، والألفاظ قاصرة والمعاني محدودة، اعترفوا بقصور البيان وأقروا بكلال اللسان، كما قال النبي(ص) وهو سيد المخلصين: «لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فافهم ذلك»[1]. وهو معنى دقيق في نفسه، ولكنه لا يتناسب مع ظهور اللفظ، كما هو واضح.

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} من كل هؤلاء الآلهة المزعومين الذين تدعونهم من دون الله، {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِين} من الفتنة التي تختزن معنى الضلال في إيحاءاتها {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي هؤلاء الذين يخضعون للفتنة عن دينهم بواسطة عناصر الضلال، يبادرون إلى اقتحام النار باختيارهم السير في طريق الشرك، {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} قيل: إنه من كلام جبريل أو هو وأعوانه من ملائكة الوحي ـ على نحو الجملة الاعتراضية ـ على ما يعطيه السياق ـ نظير قوله تعالى في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} [مري:64].

والآيات الثلاث مسوقة لرد قولهم بألوهية الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفار، وهم لا ينفون العبودية عن الملائكة، بل يرون أنهم مربوبون لله ـ سبحانه ـ أرباب وآلهة لمن دونهم يستقلون بالتصرف في ما فوض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شيء من هذا التدبير إلى الله سبحانه، وهذا هو الذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم، لا كونهم أسباباً متوسطةً بينه تعالى وبين خلقه، كما قال تعالى {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ* لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[2] [الأنبياء:26ـ 27].

وخلاصة الفكرة التي تثيرها الآيات، أن الملائكة يؤكدون بأن لكل واحد منهم دوراً معيناً، ومقاماً معلوماً في ما يفوضه الله إليهم من مهمّاتِ في حركة الكون، وأنهم الذين يقفون أمام الله صفّاً في انتظار أوامره الكونية، وأنهم الذين يرفعون التسبيح إلى مقام قدسه، في عبادتهم الخالصة التي ينزهون فيها الله عن كل ما لا يليق به.

{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ* لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأوَّلِينَ} في ما كانت تتحدث به قريش من باب التبرير العملي لما هي عليه من شركٍ وانحراف، بأن الله لم ينزل عليهم كتاباً، كما أنزله على الأولين من قبلهم، ولو حدث ذلك، {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الذين يستجيبون للوحي النازل عليهم من الله.

{فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وهذا جواب من الله لهم، فقد أنزل الله عليهم هذا الكتاب على لسان النبي محمد(ص) فكفروا به، وأعرضوا عنه، فسوف يعلمون كيف يواجهون عاقبة كفرهم في يوم القيامة.

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين} الذين تحمّلوا مسؤولية الرسالة، وعاشوا متاعبها ومشاكلها وأوذوا في سبيلها {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} في ما يعطيهم من حجّة على الحق الذي يدعون إليه وما ييسّره لهم من وسائل النصر في الدنيا على أعدائهم، وفي الآخرة على القوى المضادّة لهم، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وهم الذين يعيشون الجندية لله في حياتهم الخاصة، فيقومون بجهدٍ كبير، ويتحملون الكثير من الآلام، وفي حياتهم العامة، بما يواجهونه من التحديات الكافرة والضالة والطاغية، لذلك فإنَّ الله سوف ينصرهم بنصره، ويهيّىء لهم سبل الغلبة من خلال عناصر القوّة التي يملكونها بإيمانهم، ويحرّكونها بوعيهم ووحدتهم، وهكذا يريد الله أن يؤكد للنبي(ص) مستقبل دعوته، وما ينتظر المسلمين الصابرين الصامدين الواثقين بالله، المتوكلين عليه من الغلبة على قريش الكافرة الطاغية، ليشعروا بالأمل الكبير من خلال وعد الله، كما يشعرون به من خلال الثقة به والتوكل عليه {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} وأعرض عن الاهتمام بتهاويلهم ومشاكلهم، {حَتَّى حِينٍ } عندما يأذن الله بالنصر في ساحة المعارك التي تنتصر فيها بإذنه بعد الهجرة.

{وَأَبْصِرْهُمْ} وحدّق في كل أوضاعهم بكل نتائجها السلبية التي يتحملون مسؤولياتها {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} عندما يرون ذلك كله ماثلاً أمامهم في حياتهم العملية الخاصة والعامة، {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} حيث كان كلامهم يأخذ شكل التحدي والاستهزاء من قبيل متى هذا الوعد؟ كما لو كانوا غير واثقين به، أو معتقدين بخلافه، ولكن ما الذي يُعجلهم للوصول إليه، فهل يعرفون طبيعته وقساوته وفظاعته {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} وحلَّ بهم، وأحاط بهم من جميع جهاتهم، {فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} ليروا أيّ صباحٍ مشؤوم هو هذا الصباح المظلم المرعب، الشديد في عذابه. {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ولا تلتفت إلى كلماتهم الساخرة أو مواقفهم المضادّة {وَأَبْصِرْ} كل ما حولك من ظواهر وقضايا في ما يتعلق بحركة الدعوة أمام التحديات، وكل من حولك من القوى المضادّة من هؤلاء الذين يعاندونك ويحاربونك، {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} عذاب يوم القيامة ـ غداً ـ عندما يحشرون جميعاً إلى الله ـ سبحانه ـ.

ـــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:17، ص:174ـ175.

(2) م.س، ج:17، ص:176.