تفسير القرآن
ص / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 16

 المقدمة +من الآية 1 الى الآية 16
 

سـورة ص
مكية وآياتها ثمان وثمانون

في أجواء السورة

وهذه سورة من سور القرآن المتحركة في القضايا الحيّة للرسالة، وهي قضية التوحيد، وقضية الوحي في المعنى الغيبي للرسالة، وقضية الآخرة في دائرة الحساب، ففي واجهة هذه العناوين تحرك المجتمع الوثنيّ في مكة، بما يشبه المظاهرة العنيفة الصاخبة، التي يتنادى فيها الجميع، في صراخٍ مجنون وردّ فعلٍ قاسٍ. فقد اعتبروا أن الحدث خطير وكبير، لا سيما ما تعرض له الآلهة المزعومون من التحدي الكبير من هذا الشخص الذي يدعي الرسالة من الله، مستهدفاً جعل الآلهة إلهاً واحداً، وهو ما يثير الدهشة والعُجب والاستنكار. وتنطلق الآيات في تقييمٍ فكريٍّ يضع الأمور في نصابها الصحيح، ومن ثم تطلق تهديداً حاسماً يتناول النتائج الأخرويّة المترتبة على ذلك، ثم تدعو النبي إلى ضرورة الصبر على سنة الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه ليجد نفسه في الموقع الذي كان فيه كل هؤلاء، وفي الطريق الذي ساروا فيه، وفي المشاكل الصعبة التي عاشوا في داخلها، ليتحمل ما تحمّلوه، وليصبر كما صبروا، وليواجه التحديات كما واجهوها. وبعد ذلك، تسلِّط الآيات الضوء على المصير المشرق للصابرين الذين أصروا على حمل الرسالة وتحملوا في سبيلها المعاناة والصعوبات، وعلى المصير المظلم للطاغين الذين أصرّوا على طغيانهم. ثم تدعو الرسول لكي يستمر في التبليغ ويثير أمام الناس كل حقائق الغيب في الملأ الأعلى في ما يثيره من قضاياه، ويُعلن لهم أنه ليس داعيةً يطلب أجراً، ولكنه رسول يفتح كل قلبه لله، ويطلب منه وحده الأجر.

وهكذا تُحرك السورة التفاصيل الحيّة لهذه القضايا العقيدية الثلاث في كل حركة التاريخ الرسالي كما وردت في كلمات المؤمنين والكافرين، وفي اللمعات المنيرة التي يلامس فيها القرآن ذلك كله، لتكون موعظةً للناس كافة. وهذا هو الهدف الكبير لكلّ الرسالات التي حملتها الكتب الإلهيّة: أن يتعظ الناس بالفكر الرسالي، وبالروح الرسوليّة، وبالوحي الذي يضم ذلك كله.

ــــــــــــــــ

الآيـات

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ* وَعَجِبُواْ أَن جَآءهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إلهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا في الْمِلَّةِ الآخرةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ* أأَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ* أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ* أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِي الأَسْبَابِ* جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحَزَاب* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَاد* وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُوْلئِكَ الأَحْزَابُ* إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ* وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاق* وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (1ـ16).

* * *

معاني المفردات

{فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}: في استكبار عن قبول الحق وعداء له.

{وَّلاَتَ حِينَ}: ليس حين.

{مَنَاصٍ}: مفر.

{الْمَلأُ}: جماعة الأشراف.

{الأسْبَابِ}: الطرق والوسائل التي يمكن التوصل بها إلى الغاية.

{وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ}: أي قوم شعيب، والأيكة الشجر الملتف.

{فَوَاقٍ}: الزمان اليسير.

{قِطَّنَا}َ: نصيبنا.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) قال: أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش، فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه. قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله(ص) فدعاه، فلما دخل النبي(ص) لم يرَ في البيت إلاَّ مشركاً، فقال: السلام على من اتّبع الهدى، ثم جلس، فخبّره أبو طالب بما جاءوا به فقال: أوهل لهم في كلمة خير لهم من هذا، يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم، فقال أبو جهل: نعم، وما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله.

قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}[1].

وفي تفسير القمي، قال: لما أظهر رسول الله(ص) الدعوة، اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب: إن ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرَّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجلٍ في قريش ونملِّكه علينا.

فأخبر أبو طالب رسول الله(ص) بذلك فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنة، فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم، وعشر كلمات، فقال لهم رسول الله(ص): تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقالوا: ندع ثلاث مائة وستين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟ فأنزل الله الآيات[2].

* * *

القران الهادي من الغفلة

{ص} من الحروف المقطعة في القرآن، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} الواو للقسم، أي أقسم بالقرآن ذي الذكر الذي أنزله الله ليكون ذكراً للناس، يفتح به قلوبهم على الله، فيعيشون معه في حضورٍ دائم، بما يتمثلونه في آياته من عظمته في ذاته وصفاته وخلقه، ومن نعمته في كل ظواهر الحياة التي أبدعها لتكون مسخّرةً للإنسان في حاجات وجوده، بما يحفظ حياته ويجعلها مريحةً يتحقق له فيها ما يشتهيه ويستلذه، ويفتح عقولهم على الفكر النيّر العميق في قضايا العقيدة، فيبتعدون بذلك الذكر عن الغفلة التي توقعهم في قبضة الخرافة، وفي واقع الشرك والإلحاد، وما يؤدّي إليه من انحرافٍ في التصور على مستوى مفاهيم الأشياء المتحركة في حياتهم، أو في طبيعة العلاقات التي تشدهم إلى الآخرين، وبذلك كان القرآن حركةً متصاعدةً، تنفتح روحياً وفكرياً وعملياً على كل ما يذكّر الإنسان ويبعده عن الاستغراق في الغفلة المطبقة الخانقة التي تجعله فريسةً لكل دعاة الكفر والضلال، ليكون ذاكراً لكل مفردات الواقع التي تثير فيه التفكير والتأمل واليقظة في كل موقعٍ للعقيدة، وفي كل ساحةٍ للصراع، وفي كل موضعٍ للانتماء.

أمّا جواب القسم فقد ذُكر في تفسير الكشاف أن فيه وجهين: «أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم، أعني «ص»، على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه، كأنه قال: والقرآن ذي الذكر، إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعني هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بـ «ص» والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز، ثم قال: بل الذين كفروا في عزّةٍ واستكبارٍ عن الإذعان لذلك، والاعتراف بالحق وشقاقٍ لله ورسوله»[3].

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} بما تمثله هنا كلمة العزة من تمردٍ على الحق وامتناعٍ عن الانسجام معه، إذ توحي بمعنى القوّة المعقَّدة لدى هؤلاء الذين يشعرون بعزة الانتماء للكفر وارتكاب الإثم، أمّا كلمة الشقاق فتعني المعارضة الشديدة التي تمنع من وحدة الموقف في الفكر والإيمان.

{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} من الأمم السابقة التي تمرّدت على وحي الله الذي جاء به الرسل كما تمرد هؤلاء، فذهبوا في غيابات الفناء والنسيان، {فَنَادَواْ} واستغاثوا وأعلنوا الويل، {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي ليس الوقت الذي أرادوا التخلص فيه من العذاب عند نزوله عليهم هو وقت الفرار والنجاة، لأن أوانه قد فات، فالنجاة لا تكون إلا بالرجوع إلى الله والتوبة عن الكفر في الحالات الطبيعية.

* * *

وعجبوا أن جاءهم منذر منهم

{وَعَجِبُواْ أَن جَآءهم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} ينذرهم بالوحي، لأنهم يتصورون أن الرسول لا بد من أن يكون من غير البشر، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} في كلماتٍ غير مسؤولةٍ، ليواجهوا التأثير العقلي والنفسي الذي تعرض له بعض جمهورهم بعد الذي سمعوه من القرآن ومن حلاوة حديثه، وسموّ أخلاقه، وروعة أسلوبه. لقد اتَّهموه بالسحر ليفكر الناس بالمسألة في هذا الاتجاه الذي يتصل بالقدرة الذاتية على التأثير، كما يفعل السحرة الذين يتأثر الناس بفنّهم الساحر، لا بفكرهم، ولا يفكرون بها من جانب الوحي الذي يمنحه صفة الرسول. وقد نسبوا إليه الكذب، ليسقطوا الثقة به رغم معرفتهم بصدقه الذي يؤدّي إلى الثقة بما ينقله عن الله من الوحي القرآني النازل عليه، وليؤكدوا للناس بأنه قد انحرف عما كان معروفاً عنه من خُلُق الصدق في ما يدعو إليه، ليحصل على امتيازاتٍ جديدة في زعامة الناس من حوله.

{أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} فهو ينكر ألوهية هذه الآلهة التي نعبدها كما كان يعبدها آباؤنا، لأن التقاليد العامة التي يتحرك فيها الناس تفرض ذلك، ما يجعلها في مستوى الحقيقة الواضحة التي لا يشك فيها أحد، بل يتم تقبَّلها بعفويّةٍ وبساطةٍ ومن دون تفكير، وها هو محمد، يدعو إلى رفضها وتحطيمها ويدعو إلى عبادة إله واحدٍ لا نراه ولا نحس به، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي بليغ في العجب الذي يثيره، لأننا لا نتصور إنساناً عاقلاً واعياً يقف هذا الموقف الرافض للآلهة، المحارب لها، من دون خوفٍ ولا وجل، ليجعل الجماعة واحداً.

* * *

وانطلقوا في صخب وثورة

{وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} في ثورةٍ عارمةٍ، ومظاهرة صاخبةٍ لحماية الآلهة {أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ} واثبتوا على احترامها وعبادتها والانتماء إليها، فلا فائدة من جدال محمد في ذلك، ولا مجال لإقناعه في العدول عنه {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} الظاهر أن معناه هو أن الثبات على عبادة الأصنام والصبر عليها من الأمور المطلوبة التي يجب التأكيد عليها، وقيل: إنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي(ص) ويطلبه، وأن مطلوبه شيءٌ يراد بالطبع وهو السيادة والرئاسة، وإنما جعل الدعوة ذريعةً إليه، وهو خلاف الظاهر، كغيره من الوجوه المذكورة في كتب التفاسير، لأنهم كانوا في مقام تأكيد دعوتهم في الثبات على الخط الذي يسيرون عليه، والله العالم.

{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرةِ} التي يتداولها الناس ويؤمنون بها، { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} وافتراء على طريقة الأساطير التي اختلقها الأولون، وقيل: إن المراد بها النصرانية، ولكنها لم تكن متداولة لديهم.

* * *

استنكار المشركين

{أَأنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} كان هذا هو الاستفهام الإنكاري الذي أطلقه المشركون من قريش، حيث استغربوا إنزال الوحي على رسول الله(ص)، وعدم إنزاله على غيره ممن هو أكثر منه مالاً وقوّةً وموقعاً في المجتمع الطبقي في مكة، ولكن الله يرد عليهم بطريقةٍ تتناسب مع الجو العدواني الذي أوجدوه، ليؤكد حقيقة الواقع الداخلي من جهة، وليحدّد ملامح هذا الاستهتار الكلامي في مواقفهم، {بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} في ما تثيره الأوهام المعقّدة في أفكارهم من شكوك وشبهات، مما لا يتوقفون عنده ليفكروا فيه، وليناقشوا مفرداته، وليدخلوا في حوار حوله مع النبي محمد(ص)، من أجل الوصول إلى قناعةٍ مخالفةٍ أو موافقةٍ تنطلق من فكرٍ خاضعٍ للحجة القوية، ولكن المسألة التي تفرض نفسها على الموقف، هي حالة الاسترخاء الفكري أو العملي التي يستغرقون فيها، فما كان يحيط بهم لا يكلفهم دفع أيّة ضريبةٍ من أمنهم وراحتهم ومصيرهم. {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} فهم يشعرون بالأمن الممتد في حياتهم فلا يخافون من الخطر الداهم، فإذا ذاقوا العذاب، فكروا بطريقةٍ أخرى، وواجهوا الموقف بروحيّةٍ مختلفة.

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} التي لا يستطيع أحد أن يحصل عليها أو يقترب منها إلا بإذنه، كما أنه لا يمنع أحداً منها ممن تشمله رحمته وتحتويه حكمته، فهل يملكون شيئاً منها، سواء أكانت من الخزائن المعنوية للرحمة كالنبوّة ونحوها، أم من الخزائن المادية، كالنعم الكثيرة المتوفرة في دائرة الحسّ؟

{أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا} لتكون لهم السيطرة على الكون التي تمكنهم من معرفة كل شيء فيه، ومن التصرف به بكل حرّيةٍ، {فَلْيَرْتَقُواْ فِي الأَسْبَابِ} أي ليصعدوا هناك، ليحدِّدوا موضوع الوحي، ولمن يكون، وهو وارد على سبيل التعجيز لإظهار عجزهم وحقارة موقعهم في مواجهة التحدي. {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} من هؤلاء الذين يجتمعون للوقوف في مواجهة الإسلام ليحاربوا دعوته ورسوله، فهم فئة حقيرة، مهما بلغت من العدد، ومهما جمعت من القوّة {مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ} لأنهم لا ينطلقون من موقع قوّةٍ في العمق الروحي من شخصيتهم، بل يعيشون الضعف الداخليّ المسيطر على كل تطلعاتهم ومواقعهم ومواقفهم.

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَاد} وقد اختلفَ في تفسير هذه الكلمة ـ ذو الأوتاد ـ فقيل: لأنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، وقيل: لأنه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد، وقيل معناه: ذو الجنود فهم أوتاد الملك، وقيل: إنه وارد على سبيل الاستعارة لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما تستقيم الخيمة إذا شدّ أطنابها بالأوتاد الثابتة في الأرض.

{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ} وهم قوم شعيب {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} الذين تحزبوا ضد الرسل، {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ} في موقفٍ متمرّدٍ عدوانيٍّ {فَحَقَّ عِقَابِ} أي فثبت العقاب عليهم جزاءً لهم على ما كسبوا من السيّئات، وتلك هي سنَّة الله في المكذبين، فكيف يأمن هؤلاء المشركون من قريش عقاب الله؟ {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي ليس لها أيّة مهلة أو فرصةٍ للهروب فتستأصلهم بسرعة، والفواق هو الزمن الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ـ كما قيل ـ وقد استعمل على سبيل الكناية.

{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي قسطنا ونصيبنا من العذاب {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي قبل يوم القيامة استعجالاً له على سبيل الاستهزاء بالفكرة التي تطرحها الرسالة ويؤكدها الرسول.

ــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:17، ص:187.

(2) تفسير الميزان، ج:17، ص:187ـ188.

(3) الزمخشري، أبو القاسم، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، ج:3، ص:359.