تفسير القرآن
ص / من الآية 27 إلى الآية 29

 من الآية 27 الى الآية 29
 

الآيــات

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّار* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ* كِتابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألبابِ} (27ـ29).

* * *

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} من دون غايةٍ تنتهي إلى هدفٍ معيّنٍ في تكوينها وحركتها، ومن دون حكمةٍ عميقة كامنةٍ في كل الظواهر الكونية والإنسانية في ما تخضع له من القوانين التي تنظّم وجودها وتخطط حركتها، بحيث توحي بالنظام الحكيم القائم على الحق والحكمة في وجوده كله. فالله لا يخلق ما يخلق عبثاً، ولا يفعل ما يفعل لهواً ولعباً، لأن ذلك يتنافى مع كماله وجلاله. وإذا كان الله قد خلق الوجود كله على أساس الحق، فلا بد للإنسان، الذي هو جزءٌ من الكون الحيّ المتحرك نحو غايةٍ حكيمةٍ مبنيّةٍ على الحقّ، من أن يتحرك على أساس الاختيار الواعي في نطاق تعاليم الله ومنهاجه العملي في الحياة، في ما أنزله من شرائعه.

وهكذا يرفض الله الباطل في حركتهم، كما يرفضه في وجودهم، ولكن الكافرين لا ينسجمون مع الخط الرسالي الكوني، لاعتقادهم بعبثية الحياة والنهج المرتكز على الباطل في ما يتخيلونه من أفكار، و{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الذين يعملون وفق الظن لا اليقين، فيستسلمون لخيالاتهم الطارئة، ولا ينطلقون مع تفكيرهم العميق المبني على التأمّل والمعرفة {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ} التي هي جزاء الكافرين المعاندين لله ولرسله، وهذا الذي أقام الله عليه الحياة العملية للناس، محدداً الجزاء في العقاب والثواب، ليجزي المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم، انسجاماً مع مبدأ العدل الذي يرفض التساوي بين السائرين على الخط المستقيم وبين المنحرفين عنه.

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فهل يمكن أن نجعل هؤلاء المؤمنين والمصلحين لأمور البلاد والعباد {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} الذين ينطلقون من قاعدة الكفر الذي يعمل لإفساد التصور في العقيدة، والحركة في الحكم والمنهج ما يسيءُ إلى التوازن في سير الحياة، فتفسد أوضاعها العامة والخاصة؟! {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} الذين يلتزمون أوامر الله ونواهيه ويراقبونه في سرّهم وعلانيتهم {كَالْفُجَّارِ} الذين يرتكبون المعاصي بفجور ويبتعدون عن المعاني الإنسانية الروحية في علاقاتهم بالحياة وبالله وبالناس؟!

وإذا كان الله لا يساوي بين هؤلاء وهؤلاء من موقع الحق الذي يفرض إيصال المحسن أو المسيء إلى حقه المتناسب مع سلوكه، فلأن ضوابط القيم الإلهية الروحية هي الحاكمة على مسار سلوك الإنسان في علاقاته العامة وتعامله مع الصالحين والفاسدين، والكافرين والمؤمنين، والمتقين والفجّار، فلا مجال للمساواة في النظرة الروحية بين هؤلاء وهؤلاء... مع ملاحظة تأكيد المساواة في الحقوق والواجبات العامة، فإن العدل الذي يفرض عدم المساواة في النظرة التقييمية، هو الذي يفرض المساواة في حساب الثواب والعقاب.

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} بما تمثله البركة من امتداد النفع العام والخاص في حياة الناس على مستوى الحياة الفكرية والعملية، {لِّيَدَّبَّرُواْ آياتِهِ} ويتأملوها ليأخذوا منها المعرفة الشاملة بالحق المنفتح على الحياة كلها، وعلى الإنسان كله، {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبابِ} الذين يحرّكون عقولهم في آياته، فيدفعهم ذلك إلى الانفتاح على الله في موقع عظمته، وفواضل نعمته، ليعرفوا موقعهم منه وموقعه منهم، وكيف يعبدونه، في ما يريده من مستوى عبادته، وكيف يطيعونه في منهج شريعته، وكيف يتقونه في حركة حياتهم.