تفسير القرآن
ص / من الآية 30 إلى الآية 40

 من الآية 30 الى الآية 40

الآيــات

{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَاد* فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ* رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ* وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ* هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (30ـ40).

* * *

معاني المفردات

{الصّافِنَاتُ}: جمع الصافنة، من الخيل.

{الْجِيَادُ}: جمع جواد وهو من الخيل السريع.

{تَوَارَتْ}: غابت.

{فَطَفِقَ}: شرع.

{بِالسُّوقِ}: جمع ساق.

{رُخَآءً}: سهلة طيّعة.

{أَصَاب}: قصد.

{الأصْفَادِ}: السلاسل.

{فَامْنُنْ}: فأعطِ.

{أَمْسِكْ}: امنع.

* * *

مع قصة سليمان

وهذا حديثٌ عن سليمان الذي تميزت حياته بالملك الواسع، والقوّة الكبيرة، فقد سخّر الله له ما لم يسخّره ـ من الناحية الفعلية ـ لأحدٍ من الأنبياء قبله، ولكن ذلك لم يبعده عن روحانية العلاقة بالله في خط الرسالة، وعن تقوى الممارسة العملية في طاعة الله.

{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} في إحساسه بالعبودية لله، كصفةٍ ذاتيةٍ يعيشها في أعماقه فكرياً وشعوريّاً، بحيث تتحول إلى خطٍّ عمليٍّ في حياته {إِنَّهُ أَوَّابٌ} مقبلٌ على الله، مرتبطٌ به، منفتحٌ عليه في كل أموره في ما تعنيه هذه الكلمة من المبالغة في الرجوع إليه، باعتباره الوجهة الوحيدة التي يتوجّه إليها في كل علاقاته وقضاياه.

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} وهي الخيول التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع إحدى يديها، السريعة في عدوها، وكأن المشهد يوحي باستعراض عسكريّ تقوم به الخيل، حيث كانت من وسائل القوّة التي تستخدم في جهاد الأعداء، فأراد أن يستعرضها أمام عينيه ليعرف مدى نشاطها، وما يمكن أن تحقق له من قوّةٍ، {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِي} قيل: إن كلمة أحببت تتضمن معنى فعل يتعدى بعن كأنه قيل: أحببت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مجزياً أو مغنياً عن ذكر ربي، وتطلق كلمة الخير على الخيل، وبذلك يكون المعنى، أنه قدّم حبّ الخيل على ذكر الله حتى شغل عن صلاته، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي حتى غابت الشمس، وفاتته صلاة العصر بسبب ذلك، وهذا هو المشهور بين المفسرين، من أن استعراض الخيل أمامه امتدّ بحيث شغله عن الإقبال على صلاته.

وقد أثار بعض المفسرين احتمال أن يكون انشغاله بحب الخير عن ذكر ربه منطلقاً من أمر الله، ليكون استعراضه وحبه لها عملاً عبادياً ليتهيأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله عملاً يختزنها ـ أي العبادة لله تعالى ـ في داخله.

ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفاً لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقتٍ معين.

ولكن ما تقدم ليس بحجةٍ قويةٍ، لا سيما إذا كانت الصلاة موقتةً بوقت معيّن في ذلك العصر، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، لذا فإن الانشغال عنها المؤدّي إلى تركها، بعملٍ آخر مرضٍ لله، موسعٍ في وقته، غير مبّررٍ شرعاً.

ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأن سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث، وهو ما لا يتناسب بالتأكيد مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال: إن ذلك بلحاظ أهميّة الصلاة، وبذلك يكون قد قدّم المهمّ على الأهم في الوقت الذي يتسع للعملين معاً، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت.

* * *

كيف نفهم حدود العصمة؟

وقد نلاحظ في هذا المجال، أن مسألة حدود العصمة، في ما يراد من خلاله تأكيد القيمة الأخلاقية المنفتحة على الله في القيام بما يحقق رضاه في أفق محبته، لا يكفي فيها التركيز على ترك المعصية، بل لا بدّ من الانفتاح على العمق الروحي الذي يتناسب مع قيمة النبوّة في جانب القدوة الرسالية منها.

وقد ينبغي دراسة الأسس التي يحاول الكلاميون من خلالها تبنّي مسألة عصمة الأنبياء بالشكل المطلق، لنتعرف كيف يمكن لنا أن نواجه الظواهر القرآنية التي تمنح الجانب الإنساني قيمةً واقعيةً في تقييم شخصية النبي، بالمستوى الذي لا يبتعد عن الإخلاص والصدق الواعي في خط الرسالة، مع إفساح المجال لبعض نقاط الضعف الإنساني أن تنفذ إلى حياته، بشكلٍ جزئيٍّ طبيعيّ.

* * *

فتنة الله لسليمان

{رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي الخيل ـ على ما هو الظاهر ـ في عملية استعادةٍ للاستعراض ولكن بروحيّةٍ أخرى {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} قيل في معناه أنه شرع يمسح بيده مسحاً بسوقها وأعناقها ويجعلها مسبّلةً في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.

وقيل: المراد بمسح أعناق الخيل وسوقها ضربها بالسيف وقطعها، والمسح القطع، فهو غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكره، فأمر بردّها ثم ضرب بالسيف أعناقها وسوقها فقتلها جميعاً.

ويعلّق صاحب الميزان على هذا الوجه، بأن «مثل هذا الفعل مما تتنـزه ساحة الأنبياء عليهم السلام عن مثله، فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشدّ المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم»[1].

ويذكر في موضع آخر أن الروايات التي تؤكد على هذه القصة بهذا الشكل تنتهي إلى كعب الأحبار، بالإضافة إلى الإغراق في التفاصيل التي تدخل في دائرة الأعاجيب[2].

أمّا تعليقنا على ذلك، فإن الظاهر من الآية قد يؤكد فكرة ضرب أعناقها وسوقها، لأن مسألة تسبيلها في سبيل الله لا يتوقف على «ردّها عليه»، كما أنه لا يفسر مسح أعناقها وسوقها، فإن من المتعارف مسح الخيل على نواصيها، كما أن هذه الروايات تلتقي مع ظهور الآية في ردّ الفعل الذي قام به سليمان إزاء انشغاله بها عن الصلاة، ما جعله يفكر بالخلاص منها بقتلها، من غير ضرورةٍ لأن يكون ذلك على سبيل الانتقام منها، أو إتلافها كمالٍ محترم لا يجوز إتلافه، بل قد يكون ذلك بمثابة ضغطٍ على نفسه بغية إيلامها لأنها أحبّت الخيل وبهذه الطريقة، مع ملاحظة أن ذلك حلالٌ في شريعته، لأن الخيل كانت تذبح كالأنعام، للطعام، والله العالم.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} إن هذه الآية توحي بوجود فتنةٍ واختبارٍ في حياة سليمان، لتوجيه بعض أوضاعه التي يريد الله له أن يركّزها على أساسٍ من الاستقامة في الفكر والعمل، في ما يبتلي الله به عباده ورسله، من أجل أن يربّيهم على الثبات في مواقع الاهتزاز من خلال حركة التجربة في حياتهم العملية التي يُراد لها أن تطل على حياة الآخرين من موقع القيادة الرسالية، وربما توحي الآية من خلال قوله {ثُمَّ أَنَابَ} بأنه ابتعد عن الخط قليلاً، في ما هو القرب السلوكي من الله، ثم عاد إليه بعد أن ابتلاه الله فعلياً.

وقد اختلفت الروايات في تصوير المراد بالفتنة، فذكر بعضها أنه كان يشعر بالقوّة الكبيرة في جسده بما تمنحه من القوّة الجنسية التي يواقع فيها عدداً كبيراً من نسائه لتلد له كل واحدةٍ منهن ولداً، فولد له ولد غير متكامل الخلقة، وأماته الله وألقاه على كرسيه جسداً لا روح فيه، ليدلّل له أن الأمور كلها بيده، وقيل: إن الله ابتلاه بمرض فألقاه على كرسيه كجسدٍ لا روح فيه، إلى غير ذلك من الروايات التي لا أساس فيها للحجية، لا سيما وأن الكثير منها لا يتناسب مع أخلاقية الأنبياء أو المؤمنين مما روته المصادر الإسرائيلية، فلنردّ علم ذلك إلى أهله، ولنقف عند إيحاءات الآية في حصول نوع من البلاء الذي أنزله الله على سليمان، ليكون بمثابة الصدمة الروحية التي تثير لديه الكثير من الأفكار حول القضايا المتصلة بموقعه من الله ورجوعه إليه، وطاعته والانقياد له في كل الأمور.

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما يمكن أن يخطر في بالي مما لا ينسجم مع رضاك أو مما قد أنحرف فيه من سيئات عملي، مما لا عصمة لي فيه إلا من خلال رعايتك وحمايتك لي من كل شيطان يغريني، وعدوٍّ يضلّني ويغويني، {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} فأملك القوّة المسيطرة التي أستخدمها برعايتك وبرضاك وبقوتك، لأستطيع من خلالها الامتداد في سلطة الإيمان المستمدة منك في نطاق هذا الملك، بما لا يملك أحدٌ أن يقهرني به، بينما أستطيع قهر الآخرين به ممن لا يستجيب لدعوتك ولا يعمل في خط رضاك.

وهذا الملك الذي يطلبه سليمان، لا ينطلق من حالةٍ ذاتيةٍ تتطلب تغذية العنصر الأناني في شخصيته، أو تقوية التحرك العدواني في سلطته، لأن روحيته في طلبه هذا، هي روحية المؤمن الرسالي الذي يرجع إلى الله ويخضع له ويستغفره وينفتح عليه، ويرجوه في كل رغباته مما لا يبتعد عن رضاه. وفي ضوء ذلك، فإن تحديده الملك بأنه لا ينبغي لأحد من بعده، لا يتحرك في دائرة منع غيره من مثله، بل في نطاق تميزه بخصوصيةٍ نوعيّةٍ تشتمل على الخوارق المعجزة، ما يوحي بكرامة الله له، وعنايته به، بما يميّز الله به بعض عباده على بعضٍ.

{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً} أي تتحرك بإرادته واختياره بسهولةٍ ولينٍ من دون أيّة مشكلة، وذلك على سبيل الكناية في التعبير عن مطاوعتها له وانقيادها لرغبته في كل مشاريعه المتحركة في التنقل من مكان إلى مكان بسرعة، {حَيْثُ أَصَابَ} أي حيث أراد مما يقصده ويريد الوصول إليه من أهداف، لذا فلا منافاة بين هذه الكلمة في توصيف الريح بالرخاء وبين التعبير عن الريح بأنها عاصفةٌ في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء:81]، لأن التعبيرين واردان على سبيل الكناية، إذ يراد من الرخاء الانقياد، ومن العاصفة السرعة، والله العالم.

{وَالشَّيَاطِينَ} التي سخرها الله له لخدمة مشاريعه العمرانية {كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} ممن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور كالجواب، كما جاء في آية أخرى، {وَغَوَّاصٍ} في مشاريعه الاقتصادية، حيث يستخرجون من البحر اللؤلؤ والمرجان وغيرهما من ثروات البحر، وهؤلاء يتحركون بحرية لانقيادهم له، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} والسلاسل التي يقيدهم بها لتمرّدهم عليه، وذلك كناية عن سيطرته المطلقة عليهم، {هَذَا عَطَآؤُنَا} يا سليمان، مما لا يملك أحدٌ مثله من الناس من حولك أو من بعدك، {فَامْنُنْ} على من تشاء من الناس الذين تريد أن تمن عليهم بما أعطاك الله منه، {أَوْ أَمْسِكْ} عمّن تريد حرمانه، فإن الأمرين يستويان من جهة حجم العطاء الكبير الذي منَّ الله عليك به، {بِغَيْرِ حِسَابٍ} لأنه العطاء الذي لا حدّ له، فلا ينقصه البذل، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى} مما يقرب درجته عند الله {وَحُسْنَ مآب} حيث مقامه في رضوان الله ورحمته وعظيم لطفه.

ـــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:17، ص:204.

(2) م.ن، ج:17، ص:207ـ208.