من الآية 41 الى الآية 44
الآيــات
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَة منّا وَذِكْرَى لأوْلِي الألْبَاب* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (41ـ44).
* * *
معاني المفردات
{بِنُصْبٍ}: بتعب.
{مُغْتَسَلٌ}: موضع الغسل.
{ضِغْثاً}: حزمة من العيدان ونحوها.
{وَلاَ تَحْنَثْ}: حنث في اليمين إذا لم يف بها.
* * *
وأذكر عبدنا أيوب
وهذا عبدٌ من عباد الله الصالحين الصابرين الذي عاش البلاء الشديد القاسي، فقد أصابت الآلام والأمراض جسده حتى وصل الأمر به إلى المستوى الذي لا يحتمله الإنسان العادي، فاستغاث بربّه مبتهلاً إليه، من أعماق إيمانه أن يفرّج عنه، فاستجاب له وفرّج عنه.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} الذي امتحنه الله بالبلاء فصبر صبر المؤمنين، واستسلم لله بإيمان خاشعٍ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فقد بلغ صبره الشديد ومقاومته لتأثير الآلام في جسده أقصى مداه، وتحوّل العذاب في معاناته إلى مشكلةٍ صعبةٍ في حياته، بحيث انفجر كل عضوٍ من أعضاء جسمه بألمه المكبوت صيحةً صارخة؟!
كيف سلّط الله الشيطان على أيوب؟
ولكن ما هو المراد بالشيطان؟ هل هو هذا المخلوق الذي يتمثل في إبليس وجنوده من الجنّ والإنس وفق ما جاء في التعبير القرآني، وإذا كان المراد به ذلك، فكيف نفسّر تدخله في مرض أيوب، وإصابته بتعبٍ وعذابٍ؟!
وقد طُرح هذا التساؤل في كتب التفسير، وعلّق عليه صاحب تفسير الكشاف بقوله إنّه لا يجوز أن يسلط الله الشيطان على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب[1].
وقد حاول تأويل النسبة إلى الشيطان بأنه «لما كانت وسوسته إليه وطاعته له في ما وسوس سبباً في ما مسّه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه إلاَّ هو»[2].
* * *
رأي صاحب الميزان في المسألة
وقد أجاب صاحب تفسير الميزان على ذلك بقوله: «إن الذي يخص الأنبياء وأهل العصمة، أنهم لمكان عصمتهم، في أمنٍ من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، وأما تأثيره في أبدانهم وسائر ما ينسب إليهم بإيذاءٍ أو إتعابٍ أو نحو ذلك من غير إضلال، فلا دليل يدل على امتناعه، وقد حكى الله سبحانه عن فتى موسى، وهو يوشع النبي(ع): {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63].
ولا يلزم من تسلطه على نبيٍّ بالإيذاء والإتعاب لمصلحةٍ تقتضيه كظهور صبره في الله سبحانه وأوبته إليه أن يقدر على ما يشاء في من يشاء من عباد الله تعالى إلا أن يشاء الله ذلك وهو ظاهر»[3].
ويوضّح صاحب الميزان تفسير الآية بقوله: «والظاهر أن المراد من مس الشيطان له بالنصب والعذاب استناد نصبه وعذابه إلى الشيطان بنحوٍ من السببية والتأثير، وهو الذي يظهر من الروايات، ولا ينافي استناد المرض ونحوه إلى الشيطان استناده أيضاً إلى بعض الأسباب العادية الطبيعية، لأن السببين ليسا عرضيين متدافعين، بل أحدهما في طول الآخر... ولا دليل يدلّ على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] فنسبها أنفسها إليه، وقال حاكياً عن موسى(ع): {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص:15]، يشير إلى الاقتتال»[4].
* * *
مناقشة مع صاحب الميزان
ولنا ملاحظة على ذلك، أولاً: بأن دراستنا لدور الشيطان في الأرض، أنه لا يخرج عن أجواء حركة الإنسان في ساحة اختياراته العملية المتصلة بأوامر الله ونواهيه لإضلاله بطريق الوسوسة التي تدعو الإنسان إلى الاستجابة له في حركة الانحراف عن الخط المستقيم، وهذا ما عبر الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:16ـ 17]. وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
وفي ضوء ذلك، فإننا لا نجد في الصورة التي يقدمها القرآن عن الشيطان أنه يمثل إحدى المؤثرات الطبيعية في مرض الإنسان أو في تعبه، لأن المسألة المطروحة لا علاقة لها بمفهومي الإمكان والاستحالة، ليكون الحديث عن الإمكان مطروحاً من ناحيةٍ فلسفية، بل المسألة تنتسب إلى الفكرة القرآنية التي استندت إلى قصة إبليس وآدم في بداية الخليقة، لتثير موضوع خط الهدى الذي يريده الله للإنسان من مواقع اختياره، ومسألة خط الضلال الذي يحركه الشيطان من خلال الوسوسة، بعيداً عن أيّ شيءٍ آخر. والظاهر أن هذه القصة التي كررها القرآن في سوره وآياته، تمثل العنوان العام للفكرة، بحيث تكون التفاصيل متفرعة عنه.
أمّا حديث التأثير الشيطاني في الأشياء من خلال آية المائدة، فلا يدل على المقصود، لأن الظاهر إرادة الارتباط بهذه الأشياء في الجانب العملي من خلال وسوسته للإنسان في الأخذ بها بالطريقة المضادّة لمصلحته، وهذا ما نفهمه من آية موسى(ع)،لأنّ قتله للقبطي قد يكون ناشئاً من الوسوسة الخفية التي نجحت في إحداث حالةٍ من الإثارة التي تقود إلى ذلك.
ثانياً: إننا نؤكد ما ذكره صاحب تفسير الكشاف، بأنه «لا يجوز أن يسلّط الله الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم وأتعابهم وطره»، لأنّ تسليطه عليهم لا يمثل أيّة غايةٍ واضحةٍ في واقع الرسالة والرسول، بل يمثل سلبيّةً معنويّةً في خضوع الرسول للتعسف الشيطاني بالطريقة التي لا يستطيع فيها أن يدافع عن نفسه، بينما كان التسليط في دائرة الوسوسة متحركاً في الأجواء التي تتيح للإنسان أن يواجه فيها إبليس، ليصدّه عن التأثير عليه.
وإذا كان صاحب الميزان يثير مسألة المصلحة في ذلك، «كظهور صبره في الله سبحانه وأوبته إليه»، فإن ذلك لا يصلح توجيهاً للمسألة، لأن من الممكن أن يتمَّ ذلك بطريقة المؤثرات الطبيعية والأسباب العادية، لأن إبليس إذا وعى ذلك، فإنه لا يقوم به باعتبار أنه يترك تأثيراتٍ إيجابية في ارتباط أيوب بالله.
إننا نفهم من الجوّ القرآني أن الله يريد أن يعزّ الرسل برعايته وألطافه أمام إبليس، فلا يتركهم تحت تأثيراته الذاتية المعقّدة.
ثالثاً: إن كلمة الشيطان، قد استخدمت في بعض الأحاديث المأثورة، كناية عن الشيء الخفيّ الذي يترك تأثيره في الإنسان، كبعض الميكروبات المؤثرة في المرض، باعتبار مشابهته للشيطان الذي يثير الأشياء السيئة في الإنسان بطريقةٍ خفيةٍ مع كون المرض ونحوه شرّاً في نتائجه، كما هي نتائج وسوسة الشيطان، فيمكن أن تكون الآية واردةً في هذا السياق، والله العالم.
* * *
أيوب ينال جزاء صبره
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فقد انتهى عهد البلاء الذي كنت فيه مصلوباً على فراشك مشدوداً إلى البلاء، واقعاً تحت تأثير الآلام والأوجاع التي تمنعك من التنظيف والاغتسال، وعافيتك ستتحقق عندما تضرب الأرض بقدمك، مما سيفجر عيناً باردة صافية، {هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} تغتسل وتشرب منه، لتشعر بكرامة الله وبرعايته وبرزقه الذي يغدقه عليك من حيث لا تحتسب، كدلالةٍ على محبته ولطفه ورحمته وعنايته بك، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} فعادوا إليه بعد أن ماتوا عندما أحياهم الله له، أو استردهم بعد أن كانوا قد تركوه وابتعدوا عنه لظروف معيّنة، {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} في ما رزقه الله من أبناء {رَحْمَةً مِّنَّا} في ما أفاض عليه من فيوضات نعمه، كمظهر حيٍّ من مظاهر رحمته، {وَذِكْرَى لأولي الألبابِ} ليتأملوا في ذلك كله بعقولهم، ليعرفوا مواقع بلاء الله في حياة عباده المؤمنين، ومواضع رحمته في ما يفرج به عنهم، ويدركوا حكمة الله في ذلك، فلا ينظروا إلى الأمور من جانب السطح الظاهر منها، بل يدرسوها من عمق الأسرار الكامنة فيها.
وكان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته، لأمر أنكره منها، مما يضيق به الصدر، أو تثور به الأعصاب، مما لا ينافي أخلاقه في ما تتميز به من قيمةٍ روحيةٍ، وكان الحلف أن يضربها مائة جلدة، وكان هذا الأمر شديداً عليه، كما يبدو، لأنها خدمته خدمةً عظيمة، وصبرت على مرضه ورعتْه رعاية جيّدة، فخفف الله عنه وقع ذلك، وقدّم له حلاًّ لا يتراجع فيه عن يمينه ولا يضغط عليها، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. وعن ابن عباس: قبضة من الشجر، أي من عيدانها، وذلك بأن يأخذ مجموعة من العيدان بعدد المائة، {فَاضْرِب بِّهِ} دفعة واحدة، {وَلاَ تَحْنَثْ} لتجزي عن يمينك من دون إيذاء لها تيسيراً لك وإنعاماً عليك. ثم يلتفت الأسلوب القرآني إلى المؤمنين وإلى النبي الذي أراد الله له أن يذكر حياة هذا العبد الصالح الصابر ليكون في ذلك عبرةٌ للعاملين الدعاة المجاهدين في سبيله، وهذا ما يبتلي به الله عباده المؤمنين في خط حكمته ورحمته، في ما يتمثل به صبرهم من قوّة الإيمان وصلابة الموقف.
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} على البلاء، {نِّعْمَ الْعَبْدُ} في إحساسه العميق بعبوديته لله واستسلامه له، وانفتاحه على آفاق رحمته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} فقد رجع إلى ربه في ابتهالٍ خاشع، فلم يشك أمره إلى غيره، بل كانت شكواه إلى الله، ودعاؤه له أن يصرف عنه ذلك البلاء، فاستجاب الله له ذلك.
وجاء في تفسير العياشي، كما في مجمع البيان، أن عبّاد المكي قال: قال لي سفيان الثوري: إني أرى لك من أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ (عليه السلام) منزلةً، فاسأله عن رجل زنى وهو مريض، فإن أقيم عليه الحد خافوا أن يموت ما تقول فيه، فسألته، فقال لي: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان، فقلت: إن سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها، فقال: إن رسول الله1 أتى برجل أحبى قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه، وقد زنى بامرأةٍ مريضةٍ، فأمر رسول الله(ص) فأتى بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربةً، وضربها به ضربةً وخلّى سبيلهما، وذلك قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ}»[5].
ـــــــــــــــ
(1) تفسير الكشاف، ج:3، ص:376.
(2) م.س، ج:3، ص:376
(3) تفسير الميزان، ج:17، ص:210ـ211.
(4) م.س، ج:17، ص:210.
(5) مجمع البيان، ج:4، ص:746.
تفسير القرآن